كتب :محمود مشارقــة
أتأمل صورة والدتي الشخصية التي تلازمني في ترحالي منذ 30 عاما .. تجلب لي الحظ وكثير من الدفء والطمأنينة.
ورغم أني لا أحسن عادة فنون الكتابة عن الذين أحبهم سأحاول التعبير في مقامها قليلا:
أمي امرأة ليست ككل النساء.. عصامية ودافئة.. ثمانينية لكنها لا زالت شابة جميلة رغم التجاعيد التي تزين ملامحها الجديدة.
والدتي الحاجة هادية عبد الرحمن أبو عرقوب، معلمتي ومنهجي ودرسي الأول في الحياة .. أمي التي لا تجيد القراءة ولا الكتابة مدرسة بحد ذاتها، تسافر معي وتشاركني ترحالي وتفاصيل مدن اغترابي.
أستمع إلى صوت مارسيل خليفة، وهو يغني أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي، وأتذكر حين تسألني كل مرة هل أصنع لك القهوة بقليل من السكر؟ .. كم أشتاق يا أمي للفاكهة التي تحبين كل مرة تقشيرها لي كطفل حتى بعد أن كبرت واشتعل الرأس شيبا.
أعشق حكاياتك التي ترويها لي عن والدي الحاج طه رحمه الله، وكيف كان هادئا وطويل البال، واستمتع بإعادة القصة ذاتها كل مرة وكذلك حكاية “طواس” وأخوالي العشرة.. تعبرين كل مرة على سجيتك يا غاليتي، لكني ألتقط تفاصيل جديدة من حكايات سمعتها كثيرا، وحفظت أبطالها وشخوصها.
كم أحببت قصة البيت الذي شيدتيه أنت وأبي في “دورا” البعيدة جنوب الخليل في خمسينيات القرن الماضي بالكد والتعب، وكيف أصبح اليوم ركاما وأثرا منسيا بعد أن زينت الدالية وقطوف العنب حاكورته.
هل تعلمين يا أمي أني أبحث في كل الأماكن التي أزورها عن خبز الطابون، الذي كنتي تصنعينه، وفي المخيلة أعمدة ذاك البيت الذي أصبح خاويا بعد انتقالك إلى الضفة الأخرى من النهر، إلى إربد والمفرق وأخيرا عمان.. أمي تبدو حكاية تغريبة فلسطينية بامتياز.
تحتفظ الحاجة هادية بذاكرة ذهبية عن الماضي رغم ما تعانيه من نسيان اليوم.. حكايات الحصيدة، وكيف كانت تجمع الحطب وعروقها الضعيفة لا تقوى على نقله إلى العقد الذي كانت تعيش فيه وعائلتها.. كيف أدارت فنون الترحال بمهارة عالية.. تعلمنا منها السياسة والكياسة والتجارة والاقتصاد، وإدارة أمورنا وكيف نصنع من الأحلام واقعا أجمل.
أمي حالها كحال كل الأمهات، لكنها لا تشبه غيرها حتما .. تحب البناء والتخطيط وتزرع حديقتها الخلفية بالورود والأزهار، ولا بأس بمشتل للنعناع، كي يصبح مذاق الشاي أطيب .. بعزم جذور الشجر العنيدة، ربت أطفالها الثمانية ليصبحوا رجالاً في حياة لم تكن يوماً سهلة.
أحب لهجتها العرقوبية الدوراوية، عندما تتحدث عن سيدي الشيخ الفر وكيف اكتسب مهارة العلاج الروحاني والطب البديل.. أسمتني على اسم خالي الغائب محمود، وأبي أسماني على اسم والده محمود ولي من الاسمين نصيب.
من الحكايات التي أطرب سماعها يا أمي عن يوم مولدي وكيف ولدت بـ “برنس” يغلفني على يد القابلة “صبرية الشخشير” في إربد شمالا.. يقولون أن الطفل الذي يولد ببرنس يكون محظوظاً مميزاً في حياته، ولا أدري إن كنت محظوظاً فعلا بعد الصدمات التي حدثت بتعب أو بعد من أحب ، أو هل أنا محظوظ بغربتي ربع قرن من الزمان بين أسقاع الأرض وموسيقاها الصاخبة أحيانا والهادئة مثل اسم أمي هادية أحيانا أخرى.
أن تروي قصة يوم برفقة والدتك، مهمة صعبة يختلط فيها الحنين والامتنان، وحكايات كثيرة.. والحقيقة المؤكدة، أنه لا شيء يعدل يا أمي الجلوس عند قدميك كطفل مهما كبرت.