أخطأ كثير المسلمين في القرون الأخيرة حينما اعتقدوا أن الإسلام دين يعنى بالناحية العبادية دون غيرها من النواحي، ففارقوا العمل لصالح الدنيا، معتقدين أنهم بذلك يرضون ربهم، وضاعف خطورة هذا الخطأ وقوعه في الوقت الذي استيقظ فيه العالم الغربي من سباته الطويل الذي دامعدة قرون، وتهافت على علوم الدنيا يحذقها ويتبارى فيها، ونظم دولة تنظيما عصريا، وكان التقدم الصناعي الذي وصل إليه الغرب الطليعة الأولى التي مهدت له استعمار العالم الإسلامي، واستغلال خيراته. كما أخطأ كثير من الشباب المثقف ثقافة أجنبية حينما اعتقدوا أن الدين عامل من عوامل التأخر، وأنه لا يمكن لأية دولة إسلامية أن تساير حضارة القرن العشرين إلا بعد أن تفارقه، وزادوا فتحدثوا عن وجوب فصل الدين عن الدولة رسميا. ولو قدر لهم أن يدرسوا دينهم الحنيف من منابعه الأصلية، وتاريخهم الإسلامي من مصارده العربية، لعلموا أن الحقيقية ليست معهم ولا مع أولئك فالإسلام الذي اختاره الله للإنسانية كلها دين جمع بين مصالح الدين والدنيا. فالتوحيد يعلمنا الخضوع لسلطة واحدة هي سلطة مبدع الكون سبحانه الجديرة بالخضوع والعبادة، لأنها السبب في إيجادنا وإمدادنا. والصلاة تربطنا بخالقنا خمس مرات في اليوم، فنتذكر أوامره ونواهيه أثناء قراءتنا للقرآن. والزكاة تعد شكرا لنعمه سبحانه، وقياما بما يفرضه علينا الواجب الإنساني نحو إخواننا الفقراء والمعوزين، ولم نظمت أحسن تنظيم لكانت أساسا متينا للضمان الاجتماعي في الإسلام. والصوم يعلمنا تقوى الله والعطف على المساكين، ويقرب النفوس للملائكة ويعلمها مراقبة الله في السر. والحج يدعونا للتجدد النفسي والتحرر الجسمي من رق العبودية لغير الله، ويفسح المجال أمامنا لعقد مؤتمرات إسلامية في مستوى عال وشهود منافع لنا وذكر اسمه تعالى في أيام معلومات والتكفير عن سيئاتنا واستيحاء العبر من تلك المشاهد. وإذا درسنا القرآن والسنة وأضفنا إليهما الفقه الإسلامي الحر المستنبط منهما فسنرى عيكل الدولة يبهر الألباب ويحير العقول. ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الله له بين سلطتي الدين والدنيا، فجعله خاتم النبيئين والمرسلين، ورئيس الدولة الإسلامية، ومصدر السلط التشريعية والتنفيذية والقضائية والقائد الأعلى للجيش، وأعطاه الحق في إسناد الإمارة والوزارة والسفارة والعمالة لمن يشاء من أصحابه، أو عزلهم، ومفاوضة ملوك العالم ورؤسائه باسم الإسلام، وكان هذا طبعا في دائرة خلافة إلاهية في الأرض، مقيدة بدستور يعد أسمى دستور عرفه تاريخ العالم، دستور لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وقد أعطى هذا الدستور لرئيس الحكومة النبوية حق تبيين مواده للناس وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم، كما أعطاه حق الاجتهاد في إصدار الأحكام التي لم ينص عليها، وجعل الرضى بها شرطا في الإيمان “فلا وربك لا يومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما” وأمره باتخاذ مجلس استشاري تشريعا لمن بعده، وتطيبا لخاطر أصحابه، يعرض فيه القضايا المتعلقة بسير الدولة من الناحية الدنيوية “وشاورهم في الأمر” غير أنه جعل له الكلمة الأخيرة في المقررات التي يتخذها هذا المجلس “فإذا عزمت فتوكل على الله”. وبهذا نعلم أن سلطته صلى الله عليه وسلم احتوت على أحسن ما في أنظمة العالم الحديث، مع الابتعاد عن عيوبها التي تعرضها للنسف والتحويل حسب الأهواء وإذا بحثنا عن نظام هذه الحكومة النبوية، فسنجد أن السلطات كلها كانت بيد الرسول خصوصية له، ومع ذلك كان له أكثر من اثنى عشر وزيرا يعينونه على تسيير شؤون الأمة أذكر منهم أبا بكر الصديق الذي كان بمثابة الوزير الأول. وعمر الفاروق الذي كان بمثابة وزير الداخلية. وعلي ابن أبي طالب الذي كان بمثابة وزير الدفاع وغيرهم ممن ورد ذكرهم في حديث ذكره ابن عبد البر في “الاستيعاب”. وحظى بوظيف أمين هذه الأمة “الكاتبالعام للحكومة” أبو عبيدة بن الجراح، وكان له (ص) ديوان مركب من أكثر من أربعين عضوا، ذكر أسماؤهم العراقي في ألفية السيرة، واصفا لهم بالكتاب، منهم من كان يكتب الوحي، ومنهم من كان يكتب أموال الصدقات، ومنهم من كان مكلفا بمراسلات الملوك، ومنهم من كان مكلفا بالمراسلات البدوية. وكان على رأسهم كاتب خاص يتقن عدة لغات هو زيد بن ثابت. وكان المسجد النبوي مقرا دائما لرياسة الحكومة وللقيادة العليا للجيش. وحظي بوظيف مدير الأمن قيس بن سعد بن عبادة فقد نعتته كتب السيرة بأنه كان بين يديه صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة. وكان لرئيس الدولة نشاط كبير في كل ميدان من ميادين الحياة. ففي الميدان الداخلي اهتم بنشر الأمن في البلاد التي اعتنقت الإسلام وتطهيرها من الأصنام وكل ما يفسد عقائدها، وبين أحكام القتل عمدا وخطأ، والسرقة والزنى وقطع الطريق، وحد الشرب، ما يضمن وما لا يضمن، والمرتد والزنديق، وقتال أهل البغي والقسامة والقذف واللعان. وفي الميدان الخارجي نجده قد اهتم بدعوة ملوك الأرض وأمرائها إلى الإسلام، ووجه لكل واحد منهم سفيرا قام بمهمته أحسن قيام، وعقد معاهدات صلح وعدم الاعتداء مع من لم يقدر له الإسلام. وخصص دارا لإقامة الوفود والبعثات التي تأتي لعاصمة الإسلام من الخارج، فكانت تنزل فيها الأيام المتوالية على نفقة الدولة، ووضع مبادئ العدل والمساواة ووضع أهدافها قارة للمعاهدات الدولية، وضمن حقوق الأقليات بشكل لا يوجد في غير الإسلام، وقضى على الميز العنصري، وسوى بين الأبيض والأسود والعربي والعجمي، ودعا إلى بناء السلام العالمي والحضارة الإنسانية، على أسس الأخوة الصادقة. وفي ميدان الدفاع وجه سرايا لعدة جهات، وغزا غزوات، ووضع قوانين صارمة دعا فيها لاتخاذ وسائل القوة للدفاع عن المسلمين، ودفع كل خطر يهدد سلامة بلادهم داخلا وخارجا، حتى أنه واجب الجهاد على الذكر والأنثى والكبير والصغير ساعة فجأ العدو، واستعمل الدبابات والمنجنيقات والعرادات وكان يشجع الجندي المتزوج فيعطيه من الفيء حظين ويعطي للأعزب حظا واحدا. وكان يقيم الاستعراضات العسكرية لإظهار قوة الإسلام وإرهاب الأعداء. وفي ميدان التعليم نجد أنه أتى العالم بالقرآن الكريم الذي يعد أوسع دائرة للمعارف استفاد منها الناس، وبالحديث الذي هو تبيين للقرآن، ورغب في طلب العلم والإكثار منه وتوفير أهله، وجعل طلبه فريضة على كل مسلم، وفضله على العبادة والشهادة، وأمر بالرحلة في طلبه، وأمر بالتعلم في الصغر، وبعرض العالم نفسه على الناس، ووضع للعالم والمتعلم آدابا، وذم العالم الفاجر ومن تعلم العلم لغير الله، وبين أن العلم لا يغني ما لم يصحبه العمل، ووضع أصول العلم وحقيقته، وبين أن القول بالرأي يسبب الوقوع في البدع، وأمر بالاجتهاد على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة، وبين فساد التقليد ونفاه، وذم من قال دين الله بالرأي، وعمل غاية جهده في محاربة الأمية ونشر القراءة والكتابة، ووضع أسسا قارة للحياة الكريمة. وفي ميدان الأوقاف دعا أمته إلى الصدقة الجارية، وأخبرها بأن عمل صاحبها لا ينقطع بعد موته، فنشأ عن ذلك من الأوقاف الخيرية ما لم يوجد في غير البلاد الإسلامية وقد بدأ عملية الوقف بنفسه فحبس حدائق النخل التسع في حياته وزاد فقال : “أنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة” وقد اقتدى به جمع من أصحابه فحبسوا عدة أملاك. وفي ميدان الأشغال العمومية كان له عدة مهندسين يشرفون على أعمال التعمير والسكنى، وغير ذلك منهم حذيفة بن اليمان والعلاء بن عقبة والأرقم وتميم بن أسد الخزاعي ومخزمة بن نوفل بل ثبت أنه كان يقوم بالهندسة بنفسه ففي طبقات ابن سعد لما أقطع صلى الله عليه وسلم الدور بالمدينة خط لعثمان بن عفان داره اليوم وفي شفا القاضي عياض أنه عليه الصلاة والسلام قال وهوبموضع نعم موضع الحمام هذا وبلغ من عنايته بتوسيع المنازل والطرق أن بعث من ينادي في معسكره أن من ضيق منزلا أو قطع طريقا فلا جهاد له أخرجه ابو داود وأخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا اختلفتم في الطريق جعل عرضه سبع أدرع. وفي ميدان الشغل والشؤون الاجتماعية أمر العمال أن يشتغلوا بجد ونشاط وشجعهم على العمل وحارب الإباحية والانحلال الخلقي والوطني وأوجد العلاج لأمراض الفقر والجهل والمرض والرذيلة وامر بتشجيع المشاريع التي تعود بالخير على الدين والوطن. وفي ميدان الاقتصاد وضع أسس الاقتصاد الإداري والمالي والتأمين الاجتماعي لكل واحد، وأمر بتنمية الثروة القومية وإحاطتها بما يحول بينها وبين الاضمحلال، وأوجب تحقيق العدالة الاجتماعية بين الفرد والمجتمع، ودعا لتنشيط الصناعات المحلية ورفع من شأن العامل بما لا يوجد في غير الإسلام عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس وأوجب الزكاة في الأموال والأنعام والحبوب والثمار على كل من كمل عنده النصاب، وأوجبها في المعدن والركاز أيضا، وأقام في كل جهة وكلاء يقبضون الأموال ووضع قوانين لبيع المرابحة والقرض وبين صورة بيع العينة وبيع الغرر وبيع السلام، وحرم الربا الذي استفحل أمره تحريما باتا إلخ… وفي ميدان العدل شرع قوانين للتسعير والرهن والحجر والصلح والتنازع في الجدار والحوالة والضمان والشركة والمضاربة والوكالة والإقرار والعارية والوديعة والغصب والشفعة والوقف والهبة والعمري واللفظة واللفيظ والجعالة والوصية والفرائض وميراث الولاء والنكاح وكيفية الصفاق والوليمة والنشوز والخلع والطلاق والكنايات والرجعة والإيلاء والظهار والقذف واللعان وصورة العدة والمفقود والرضاع والنفقات والحضانة ونفقة الحيوان والجناية والسارق والدية والقسامة والكفارة وذم السحر وبين كيفية الإيمان وكفارة الإيمان والنذر والمقاسمة في العقار والدعاوي والشهادات والعتق والتدبير والمكاتب وحكم أمهات الأولاد إلخ. وفي الميدان الفلاحي نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها وعن بيع المعاومة وهو بيع السنين وبين أحكام كراء الأرض بالطعام وبالذهب والورق وأحكام المزارعة والمؤاجرة وبيع الطعام مثلا بمثل وحرم الاحتكار في الأقوات. وفي ميدان الصحة نجد أنه صلى الله عليه وسلم كان أعلم الناس بالطب فكان تارة يعالج المرضى بالأدوية الإلهية وآونة بالأدوية الطبيعية وطورا بالأدوية المركبة منهما بل كان له بمسجده الشريف مستشفى متنقل تشرف عليه امرأة اسمها رفيدة كانت تداوي فيه الجرحى، وتحبس نفسها على خدمة من كان فيه ضيعة من المسلمين، وقد عولج فيه بأمر منه سعد ابن معاد سيد الأوس، حينما أصيب بسهم في غزوة الأحزاب. وبلغ من عنايته صلى الله عليه وسلم بالطب أن باشره بنفسه، وفي بعض الأحيان كان يحذر الجهلة من تعاطي مهنة الطب ويتوعدهم على ذلك محافظة على سلامة الناس. ومن تعاليمه السامية ما أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال : قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا كان الوباء بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليها وهو ما يسمى اليوم بالحجر الصحي، إلى غير ذلك من الميادين التي يطول ذكرها. قارئي الكريم. ألا يحق لك بعد هذا أن تصيح بملء فيك أن الإسلام دين ودولة، وأنه وضع للإنسانية قوانين محكمة صالحة لكل زمان ومكان، وبذلك ضمن للإنسانية الحياة الحرة الكريمة وهيأ لها سبل العيش في أمن وسعادة. فتشبث بدينك أفضل الأديان، واهتد بهدي نبيك سيد الإرسال وادفع عن شريعته كيد الكائدين، ومكر الماكرين، واستحضر قوله تعالى: “ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ليتي لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني” وكن داعية لإنشاء كتلة إسلامية تشق طريقها بين الرأسمالية والشيعية ولي اليقين بأنك ستنجح في دعوتك مصداقا لقوله تعالى: “هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون”.