الرزاز…مزاج شعبي
ينطلق رئيس الوزراء الدكتور عمر الرزاز من أنّ الأردن، الذي تعرّض لتحدّيات كثيرة وأزماتٍ عديدة على مدار تاريخه، لديه من الخبرة والمقدرة ما مكّنه دائماً من أن يخرج من هذه التحدّيات والأزمات أقوى مما كان قبل أن يدخلها أو يتأثّر بها، مراهناً على ما لدينا من قيادةٍ ومؤسساتٍ قويّة وشعب واعٍ، كمعادلة ثلاثيّة العناصر أعطت وتعطي للأردنّ مناعةً قويّةً جداً، أو ميزة تجعله يتجاوز كلّ ما يمر به أو يتأثر بظلاله وأنوائه مما يجري في المنطقة والعالم.
ويؤمن الرزّاز بقيمة الإنسان الأردني ومدى عطائه وعلى «المزاج الشّعبي» الذي ينبغي أن يتمّ التعامل معه بتفهّمٍ وإدراك لأهميّة أن يعبّر عن نفسه بالطرق السّلميّة والوطنيّة عبر الصّحافة والاحتجاجات المشروعة، وهو ما يؤكّد أنّ بلدنا تعامل مع فترة الربيع العربيّ تعاملاً ممتازاً وحكيماً، مُحترماً معنى التواصل والحوار بين المواطن والمسؤول أو بين الشعوب والحكومات، ويرى الرزّاز في تشخيصه للمنطقة العربيّة وطبيعة تعاملها مع مواطنيها، أنّ سلامة المزاج الشعبي موضوعٌ مهمٌّ جداً، مؤكّداً أنّ البطش والاستبداد لا يولّد غير مزاجٍ منفجرٍ أو غير قادرٍ على التعبير عن نفسه التعبير الحضاريّ المأمول.
الرزّاز، الذي قبس إحساسه الإنسانيّ والوطنيّ السياسيّ من إحساس والده الراحل منيف الرزّاز أمين عام حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ في عائلةٍ منها شقيقه الأديب المبدع مؤنس الرزّاز، يؤمن الإيمان كلّه بأهميّة الأردنّ الحاضن الذي لم يكن دمويّاً يوماً، حتّى في تعامله مع أشدّ المعارضين، بدليل أنّه لم يعلّق في بدايات الربيع العربيّ مشاكله الدّاخليّة على شمّاعة مؤامرة خارجيّة وما إلى ذلك، بل بدأ بشكلٍ مباشر وحكيم ووجيه في معالجته لهذه المشاكل، ويذكّر الرزاز بأنّ مظاهرات دوار الدّاخليّة في فترة سابقة كان الأمن العامّ فيها يوزّع الماء والعصائر على المتظاهرين، ولذلك، فإنّ طريقة التعامل هذه كانت مختلفةً وفريدةً وتؤكّد حكمة استيعاب التعبير الحقيقي للمواطن عن طموحه وآماله في الهموم الاقتصاديّة والمشاركة السياسيّة والإصلاحات المصاحبة في هذا المجال أو ذاك.
من كلّ ذلك، يرى الرزاز أنّ الاتفاق أو الاختلاف على الإصلاحات في اتجاهها ووتيرتها إنّما هو أمرٌ طبيعي لأيّ دولة تحترم التعددية والرأي وتتسم بالتسامح مع الآخرين، وهو ما يشكّل مصادر قوّةٍ هائلة للأردنّ البعيد كلّ البعد عن البطش والقمع والاستبداد، باتجاه التعاضد الوطنيّ بكلّ عناصر الوطن وطاقاته ومكوّناته الإنسانيّة.
حول موضوع المواطنة وأهميّة الوحدة الوطنيّة في تعزيز الجبهة الداخليّة المتماسكة للأردنّ، يستنير الرزاز بما كتبه جلالة الملك عبدالله الثاني في أوراقه النقاشيّة، وتحديداً حول ما طرحه جلالته من أنّ الخلاف بين المواطنين في الرأي ليس سبباً لإطلاق صفة عدم الانتماء، بل هو وجهٌ حضاريٌّ وديمقراطي في احترام الرأي والرأي الآخر، ويعرّف الرزّاز من هذه الأطر الفكريّة لجلالة الملك أنّ الديمقراطيّة ليست غير رسائل سلميّة لحلّ خلافات المجتمع، وأنّ المجتمعات التي تطوّرت ووصلت إلى حالات ودرجات عالية من الازدهار في المستوى المعيشي والرفاه الاجتماعي لم تصل إلى هذا الوضع إلا لأنّها احترمت مواطنيها وحفزتهم على التكامل والعطاء وكانت دائماً تتوافر على رسائل لمعالجة الخلاف، لا بالبطش والاستبداد وقمع الرأي.
وفي السّياق، يرى الرزاز أنّ «الاختلاف» كثيراً ما يؤدّي إلى إبداع، بوصفه أمراً طبيعياً وصحيّاً لأيّ مجتمع يخرج شاب أو شابة فيه برأي مخالف للسائد، فيُسمح له بطرح هذا الرأي والاستماع له باتجاه النقاش واحترام الفكر النيّر الموضوعي لهؤلاء الشباب، وبذلك تتطوّر المجتمعات وتتقدّم على الدّوام.
ولأنّ الأردنّ دولة صغيرة الحجم والموارد، وجغرافيّاً تقع في منطقة ملتهبة، فيها مصالح إقليميّة وعالميّة، وكأنّ حرباً عالميّةً ثالثة في شمالنا تدور في سوريا، وتدخل فيها كلّ القوى الإقليمية والعالميّة، فإنّ السؤال يصبح: كيف يحافظ الأردن على أمنه واستقراره ومصلحة شعبه، أما بقيّة الأمور فتبقى تفاصيل، كما يقول الرزاز الذي يرى أنّ تجربة الأردنّ في حفاظه على إنسانه ومكوّناته وأمنه أشبه ما تكون بتجربة دولة صغيرة مثل سويسرا في الحرب العالمية الثانية كانت محاطة بدول كبرى ونجحت، فالسؤال هو كيف ينأى الأردنّ بنفسه عن هذا اللهيب، ما يؤكّد أنّنا دولة حافظنا على استقرارنا العسكري والسياسي والاقتصادي، ومن يقل غير هذا أو ينكره يجانب الحقيقة أو يجافي الصّواب.
ضمن هذا الإطار، هناك دائماً مفاضلة في كيف تأخذ موقفاً في ضوء الخلافات الموجودة، مثلاً بين روسيا وأميركا أو بين المملكة العربية السعودية وإيران، ومع اعترافه بصعوبة مثل هذه المفاضلة وكيف نأخذ موقفاً، إلا أنّ الرزاز يرى أنّ الأردن وفي معظم الحالات لم يصطف اصطفافاً كاملاً إلى جانبٍ ضد الآخر، في كلّ الحالات التي مرّت علينا، وهذا مصدر قوّة لبلد صغير، فهي «بوصلة صعبة» تقرأ المستقبل والملامح وهي ليست سهلةً بحال، ولذلك فإنّ التواصل مع المواطن ومكاشفته هو ليعرف أنّ الأردن لديه في كثير من الأحيان خيارات أحلاها مرّ، فنحن لسنا معزولين عمّا حولنا أو نعيش في كوكبٍ آخر، ببساطة نحن نعيش في محيطٍ ملتهب، وفي كلّ خطوة علينا أن نحسب إيجابيّاتها جيّداً وسلبياتها بطبيعة الحال، وربّما نخطئ، ولذلك فإنّ السؤال أيضاً يمكن أن يُصاغ بطريقةٍ أخرى هي هل تعلّمنا من أخطائنا؛ إذ لا نستطيع أن نكون بعيداً عن المشهد.
وفي الشّق السياسيّ والعسكريّ يعتقد الرزاز بأنّ وضعنا متين جدّاً، مستحضراً أقوالاً لجلالة الملك عبدالله الثاني غير مرة، حيث أكّد أن ما يؤرّقه ليس الوضع العسكريّ السياسيّ، إذ نحن في مأمن، بل إنّ ما يؤرق جلالته هو موضوع الشّباب وقدرتهم على فرص العمل والمشاركة في بناء الوطن، فعدم توفّر هذه الفرص يؤدّي إلى الإحباط، وهو ما قاله جلالته في دعوته كلّ المؤسسات إلى العمل على رأب هذه الفجوة وإشراك الشّباب وانخراطهم في سوق العمل وكذلك في موضوع المشاركة في الحياة السياسيّة.
من جهة متّصلة بالموضوع وقريبة منه في موضوع الشباب وفرصهم وتأثير اللجوء عليهم وحضور التطرّف والإرهاب بحضور الإحباط، يؤكّد الرزاز أنّ علينا أن نتعامل مع الموضوع الرئيس والمواضيع المتّصلة بمنتهى الجدّية لمواجهة التحدي، فالأردن كان لديه مشكلة هيكليّة في البطالة وسابقة للجوء السّوري، إذ كانت مستويات البطالة بين الشّباب مرتفعةً، ومع ذلك، فإنّ خروج شاب أنهى دراسته إلى سوق العمل وهو لا يجد من يساعده في فرصة العمل التي يطلبها، فيبقى خارج هذا السّوق لسنوات، هو أمرٌ مسببٌ للإحباط وهو أيضاً سببٌ كبير للشعور بالتهميش، والتهميش دائماً له نتيجة كبيرة وخطيرة حين يخرج من المجتمع شخص فاعلٌ ومؤثّر، فالخطر لا يقف عند خروجه كعنصر فاعل، بل يتعدّى ذلك إلى آفة التطرّف، حيث التطرّف يستقطب أعضاءه من شباب خرجوا من المجتمع، سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً، ولذلك، كما يرى الرزاز، فإنّ الشباب العربيّ بشكلٍ عام أصبح يسمّى «جيل الانتظار»، فهو لا يستطيع أن «يفتح بيتاً» أويجد فرصة عمل، وهو ما يجعله يحسّ بأنّه على هامش المجتمع، فيكون بذلك فريسةً سهلةً للفكر العدمي والظلامي الذي يدعوه إلى أن ينتقم من المجتمع ذاته الذي خرج منه.
ونحن في الأردن ولحسن الحظّ، كما يقول الرزاز، لم نصل إلى هذا المستوى، ولكننا أيضاً لا نستطيع أن نعالج هذه المشكلة بـالجزئيّات أو بالتجزئة، بل نحن بحاجة إلى خطّة وطنيّة شاملة، نضع فيها الشباب والشابات في مراحل تدريبية وأثناء دراستهم لينخرطوا في المجتمع في التطوّع والحوار وتقبّل الرأي الآخر، وفي عمليات وطنية كالزراعة أو الإصلاح أو البناء أو البيئة وغيرها، لتكون لهم فرصهم الحقيقيّة للدخول إلى سوق العمل، فهو برنامج وطني، فالكثيرٍ من الدّول جابهت أوضاعاً كأوضاعنا، مثل كوريا في الحرب البادرة، ودول أوروبا، وقد لجأت هذه الدول إلى الأمور العمليّة والكفيلة بأن لا تخسر شبابها الذين هم عنصرٌ أصيلٌ وقويٌّ في بنائه.
في موضوع الأردن واللجوء السّوري، ينطلق الرزاز من أنّ قدرة أيّ دولة على تجاوز التحدّي هي في السّعي لتحويل هذا التحدي إلى فرص، فالأردني فتح أبوابه للاجئ السوري بحكم قيمه العروبيّة الإنسانيّة الإسلاميّة والمدنية، وهي طبيعة بلادنا في استقبال اللاجئين السوريين والشباب، حيث بادر شبابنا المتطوّعون في المخيّمات لمساعدة اللاجئين السوريين وبشكلٍ عفويٍّ وتلقائي. ومع الوقت أصبحنا نتحدّث عن الآلاف ومئات الآلاف، عن أكثر من مليون وربع المليون في فترة سابقة، وبالطبع فإنّ هذا شكّل ضغطاً على البنية التحتية في التعليم والصّحة وعلى فرص العمل كذلك، وهو ما كان يؤرّق الشباب الذين يسألون عن فرصهم أمام اللجوء السوري على أرض الواقع، وفي ذلك يرى الرزاز أنّ فرقاً كبيراً بين الوافد العربي واللاجئ السّوري الذي ليس لديه الخيار، بل هو ضحيّة وضع لم يصنعه وعلينا أن نتعاطف مع هذا الوضع وأن نبقى على التراحم الذي ساد في البداية، ولكن علينا ألا نعظ الشباب فقط وإنّما أن نجد لهم حقوقهم ونلبيها، وفي الواقع فإننا حين نطّلع على التركيبة الديمغرافيّة للشباب السوري، حيث المهارات الموجودة لديهم في قطاع الزراعة والإنشاءات وفي القطاعات الخدمية كذلك، فمن الممكن أن يكون هذا العامل مكمّلاً للقطاعات الأردنية لا بديلاً عن الشباب الأردني.
وفي بعض القطاعات قد يكون هناك تناقض حقيقي في أنّ اللاجئ السوري مستعد لأن يقبل بالأجر الأقل والظرف الأصعب، وهنا فإنّ علينا أن تكون لدينا سياسات فنستفيد من اللجوء السوري، ونعطي الإنسان السوري أملاً وقدرةً على التدريب والحياة لأنّه يعرف أنّه سيعود إلى بلده إن عاجلاً أم آجلاً فلديه القدرة لأن يكون مواطناً سورياً ومتدرباً وهو ما سيساعده على العودة أكثر مما لو كان في مخيّمات اللجوء التي يعاني فيها أوضاعه الصعبة بالتأكيد.
في موضوع التطرّف يؤكّد الرزاز أنّ الإنسان بطبيعته وفطرته الأصيلة هو غير متطرّف، إلا إذا أوقعته ظروفه في أسباب التطرّف وبواعثه، وفي الأردن فإننا بقيمنا العربيّة الإسلاميّة الأردنيّة والهاشميّة الوسطيّة والمتسامحة لا نكفّر أحداً انطلاقاً من «رسالة عمان»، ففكرة التكفير هي فكرة مستحدثة ودخيلة للأسف لظروف سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة أدّت في المئة سنة الأخيرة إلى أن يمثّل هذا الفكر المتطرف حيزاً أكبر مما يمثل تاريخاً على مدى القرون السابقة. ويؤكّد الرزاز أنّ قدوتنا في هذا الوسطيّة والتسامح هي أن جلالة الملك عبدالله الثاني يؤكّد هذه السّمة الأصيلة للدين، فهي قيم موجودة لدينا وفي ديننا ويجب أن نظل نذكّر بها كصوت مضاد لما نراه من قبح وظلام وفكر عدمي يستحوذ على الشّاشة على الأقل.
في الشّأن الاقتصادي يرى الرزاز أنّ هناك إمكانيّة لأن يحول الأردن هذه الأزمة وهذا التحدي إلى فرص، على اعتبار أنّ اقتصاد الأردن تاريخيّاً يعتمد على وضع الدول العربية التي حولنا، في الوضع النفطي وأسعار النفط على سبيل المثال، سلبياً بارتفاع الأسعار وإيجابياً بتحويلات العاملين ووضع الدول المجاورة في التصدير والاستيراد، فنحن في جوانب معيّنة مثلاً كما يقول نرى أن مزارعين يتأثرون بالأسواق العربية المجاورة إذا أغلقت، وهكذا، فالفرصة لدينا هي في أن نخرج من هذه البوتقة وربما نجد طريق التصدير إلى أوروبا وأفريقيا ودول شرق آسيا، ويعتقد الرزاز أنّ الأردن قادرٌ على ذلك.
مرات معيّنة نقول إنّنا لا موارد طبيعية لدينا، وفي الحقيقة فإنّ الأمر المهمّ اليوم هو الإنتاج وفي الترتيب الأخير تأتي الموار الطبيعية التي تملكها الدولة،.. لدينا التعليم مثلاً، ولنأخذ سنغافورة على سبيل المثال التي ليس لديها موارد طبيعية تُذكر، وكوريا كذلك، فالفرصة، كما يرى الرزاز، هي أن نفتح آفاق التصدير وأن نستثمر في البنية التحتية، ولكنّ هذا يتطلّب أن نتوافق على هذه الوجهة وأن تعمل الحكومة والقطاع الخاص والقطاع المدني معاً.. نحن أشبه ما نكون محاطين بنار ملتهبة ولكن هناك فتحة للخارج إذا قدرنا أن نخرج منها سننتقل اقتصاداً ومجتمعاً إلى دولة حديثة قادرة على التعامل مع دول العالم تصديراً واستيراداً ومعرفة وبشكل مختلف كليّاً لنصبح نموذجاً لدول عربيّة أخرى اضطرت إلى أن تعتمد على مواردها الطبيعية فقط بدلاً من مواردها البشريّة، فهي فرصة حقيقيّة يجب علينا أن نستغلّها، وبالطبع فإنّ جلالة الملك عبدالله الثاني حمّل الدول الأوروبيّة ودول العالم المسؤوليّة في هذا الاتجاه، لأنّ الأردن ما يزال يتحمل تداعيات صعبة على مستوى المنطقة لا قدرة له وحده على أن يتحمّلها، ومع ذلك ما يزال ماضياً في واجبه الإنساني العروبي وعند حسن الظّن به على الدّوام.
الراي