رواية “أفاعي النار”لجلال برجس تستحق جائزتان الأولى لبرجس المبدع والثانية ل “كتارا” التي أحسنت التقدير
كتب :أسعد العزوني
قبل أيام حظيت بإهداء كريم من الشاب الأردني المبدع جلال برجس ،تمثل برواية تحمل عنوان”أفاعي النار”…حكاية العاشق علي بن محمود القصاد،الصادرة عن المؤسسة العامة للحي الثقافي في الدوحة “كتارا”،ونالت بطبيعة الحال جائة كتارا للرواية العربية.
لقد تفوق الشاعر الأردني جلال برجس على نفسه وكتب رواية مكتملة ،ومترابطة وتستطيع أن تكتب رواية أخرى من كل سطر فيها ،وهو إستحق جائزة “كتارا” عن جدارة لا شك فيها،فقد منح برجس الكتابة مرتبة القداسة من خلال طريقة الصياغة وإختيار الكلمات المعبرة ،وأتقن فن التصوير البلاغي وتقمص الشخصية بغض النظر عن أي مسار أخلاقي إتخذته ،وكان وفاؤه لرسالة الرواية يفوق أي وفاء.
كان يهيأ لي وأنا أقرأ الرواية أن خيال الكاتب واسع وبلا حدود ،ويتسع ليتحول في نهاية المطاف إلى حقيقة يلمسها القاريء ويتقبلها دون نقاش ،كما أن نسق الرواية كان يتماهى مع طريقة كتاب أمريكا اللاتينية ،والتي تجبرك كقاريء أن تترك مقعدك متلهفا لمرافقتهم إلى كافة الحواري والأزقة لمتابعة مشاهد الرواية وأحداثها .
كان جلال برجس من هؤلاء الروائيين الذين يسرقوننا طواعية من عزلتنا لنصبح دون أن ندري أبطالا في رواياتهم ،وظيفتنا مراقبة الحدث على أرض الواقع والإنفعال والتفاعل معه ،وذرف الدموع حزنا أو حرقة على من وقع عليه الظلم أو لفه الحزن ،فمن منا لم يقع في أحابيل الحب ،أو تعرض لغدر الحبيب أحيانا ،أو وقع في شماتة الأعداء أو تعرض لظلم الظالمين وحقد الحاقدين؟
نجح المبدع جلال برجس في إستثمار بداوته ليحولها ويعديها سيرتها الأولى حيث السمو والرقي،وقد ظهر ذلك على لسان زوجته ،وكان التوظيف موفقا ،والنكهة مطلوبة ،خاصة وانها كانت تأتي بعفوية ،ولم يخطط لها.
ورد في حوار بين إبن القصاد وحبيبته لمعة أن بعض الكتب تمنح قارئها أجنحة فيطير إلى تلك الأماكن التي تحكي عنها الكلمات ، ورواية “أفاعي النار “فعلت ذات الشيء ومنحت قارئها أجنحة مكنته من التحليق حيث يريد الكاتب ،وقد وجدت نفسي أتنقل باكيا إلى “الزمكان ” الزمان والمكان ،حيث يحملني برجس على أجنحة كلماته ،وأعيش مع الشخصية ،ودموعي لا تخجل من تخضيب وجهي .
“أفاعي النار “رواية مكتملة وهي إنسانية بالتمام والكمال وتتحدث عن الظلم والغدر والتخلف والقهر والغلو وإستغلال الدين بما ليس فيه وفرض الرأي غير السليم على الآخر،كما تتحدث عن الفقر والغنى والبطر والجاه والإستغلال ،والأنانية ،وما يدور في نفس من فضل مصلحته على مصالح الآخرين ، فأتقن كل ما هو شر لتشويه سمعة وصورة الآخر المنافس إن جاز التعبير.
إتسمت رواية “أفاعي النار” لبرجس بالنسج الكامل المتقن للأحداث وتكامل النص ليفي بالحاجة ،ويقدم صورة واضحة للقاريء ، تتضمن بطبيعة الحال الفكرة المقدسة التي تظهر جلية في النص ،كما أن برجس أتقن فن تواصل الصور مع بعضها لإكتمال المشهد في كل محطة من محطات الرواية المعاينة جيدا،مثل أن تقول “لمعة “لإبن القصاد :أصبحت كبيرة بما يكفي وما عاد بوسعي أن أركب المكنسة وأحلم بالبلدان البعيدة ،أركب الآن صفحات الكتب التي أدمنتها بسببك يا إبن القصاد.
تعج لغة رواية”أفاعي النار”بالحكمة ،ففي كل سطر نجد عدة صور بلاغية تدل على أن الكاتب يتسابق مع الإبداع فيسبقه ،رغم انه يكتب بتأن ويحترم الحرف واللحظة ،ولا يهدر الوقت والمساحة في هذر لا معنى له.
معروف أن هناك ذروة في كل عمل أدبي،ولكن رواية “أفاعي النار” كلها ذروات وتغريك بالبقاء في قفصها الذهبي حتى تنتهي من قراءتها، رغم ما تعانيه من عناء التنقل بين المكان والزمان باكيا،والتغيرات الحادة التي تفرض نفسها على مزاجك المضطرب أصلا بسبب ما نعانيه هذه الأيام من احداث لا تفسير لها إلا انها تسير في مسار العبث الذي تحدث عنه الكاتي المسرحي الإيرلندي صموئيل بيكيت في مسرحيته بعنوان: “إنتظار غودو” أي المجهول.
لذلك تشبه قراءة رواية أفاعي النار” قمة الإنفعال العاطفي والتفاعل مع المكان والزمان “الزمكان”،لأن الحوارات التي تتضمنها ترتقي إلى علياء القيم وتؤكد المفاهيم والقيم الإنسانية الصحيحة التي بتنا نفتقدها في هذا الزمن، فغزل الرواية متين ولا إمكانية لنقضه ،وهو صلب ومتنوع ينقل القاريء إلى عوالم متعددة تغني الحدث.
يتجلى التكامل في النص بالعديد من المواضع مثل قول إبن القصاد لإبنة الشيخ بارعة وهي طالبة عنده في المدرسة:منذ عرفتك أورق بي غصن إعتقدت انه يبس ،لترد عليه بنفس البلاغة:وأنت أضأت بي مساحة كنت اعتقد أنها لن تضاءّ.
أظهر المبدع جلال البرجس د.علي القصاد بأنه بطل يستحق أن تكتب عنه رواية وتحصل على جائزة “كتارا”،فهو لم يكن عاديا ولا ساذجا ،بل كان مثقفا فيلسوفا إحتضنته أرقى جامعات باريس ،ويقول أن الحب هو السؤال الذي لا ينتظر إجابة ،إجابته هي السعي إليه بمتعة سيرنا نحو الفردوس.
أتقن برجس مهمة التنقل وبسهولة بين أفكاره وماساحاته بحيث أن القاريء وهو يتبعه في جولته لا يحس بذلك،فالكاتب يتمتع بحسن وبقدرة الإتصال والربط ،وهناك هدف محدد لديه وهو تبديد العتمة التي تلف قلوب وعقول البعض المعنت الذي يرى في الغلو طريقا سهلا ووحيدا للتخفي وراء نواياه السيئة.
هناك هدف جلي في كل سطر خطه برجس فإبن القصاد على سبيل المثال وعد أهل قريته التي نبذته بعد تعرضه للحرق في باريس على يد جاهل متطرف فشل في نيل ود إبنة الشخ بارعة ، وعدهم بإكتشاف حقيقة الغول الذي سيطر عليهم ،وظهر فيهم من ينفذ القتل بإسم الغول ،وقد توصل إبن القصاد إلى شخصية الغول وفهم منه سبب تقمصه لذلك.
وقام إبن القصاد المشوه بحقد الجهل والغلو بإلقاء خطبة في المسجد تميزت بالتسامح والعقلانية ما أغاظ بعض المتنطعين للدين ،الذين قادوا حملة لتشويه صورته وسمعته،وخلت خطبته من الوعظية المباشرة ،وإتسمت بعمق الدعوة إلى الرجوع للخير وقيمه ونبذ الشر وما يقود إليه وأن يتفكروا بملكوت الله .
أظهر برجس في روايته مهارة كبيرة في القدرة على الربط بين الجهل والتخلف والغلو في معرض حديثه عن الإسلام السياسي وتزظيف البعض للدين المتخيل في ذاكرتهم ،لكي يمارسوا تكفيهم للآخر حتى لو كان مسلما أصلا ،لأنهم فصلوا الدين حسب مقاس عقولهم وبغير الهدف الذي أنزل اليه.
لم ينس الراوي تحالف أمريكا الرأسمالية مع الإسلام السياسي في أفغانستان ومن ثم الطلاق وإنقلاب الحليف على الحليف ،إلى درجة أن من كان يقاتل مع امريكا في افغانستان أصبح يسب عليها ويشتمها .
أتحفنا المبدع برجس بمهارة فائقة في الإغراق المزدوج تارة بالأمل والفرح وأخرى بالحزن وإنسداد الأفق،وتجلى ذلك عند عودة سعدون الغاني مع كل من لمعة وبارعة إلى بيت إبن القصاد،وصورة إجتماع الحبيبين بعد طول فراق وهما إبن القصاد وبارعة التي عرفت أن حبيبها ما يزال حيا لكنه مشوه ومع ذلك قالت أنها ستقبل به كيف كان لأن الحب هو حب القلب ،وانها ستخبره انها عذراء رغم أنها انجبت من زوجها النذل السابق شابا ،معللة ذلك بأن القصة كلها تكمن في القلب وليس في مكان آخر.
تجلت قوة برجس في إسقاط مجريات الأمور على واقعنا مبرزا دور فرع الخدمات السرية الإسرائيلية “ISIS” الملقب بداعش الخوارج الجدد ،بطريقة لا تخلو من الذكاء ،ليختتم روايته بالقول “ان هناك خللا كبيرا في حياتنا .ولذلك فإن برجس إستحق جائزة كتارا لأنه أبدع ،وأن كتارا تستحق جائزة لأنها أحسنت القراءة والتقدير.