خالد الباتلي
صدرت للأديبة الشابة المتألقة سناء الشعلان حتى الآن 13 مجموعات قصصية، نالت اهتمام النقاد، وحصدت الكثير من الجوائز، والحقيقة العالم القصصي عن سناء االشعلان عالم كبير وغني ومثقل بالرموز والتمريرات والرؤى، ويحتاج إلى وقفات فاحصة، وهو ما يضيق عنه المقام في هذا المقام، ولكن حسبنا أن نضيء زوايا وأركان ذلك العالم الحافل المتنوع، الذي يعكس عوالم القاصة الشعلان، ويكرّس موهبتها الاستثنائية.
فالمجموعة القصصية “أرض الحكايا” تقع في 16 قصة قصيرة، وهي مجموعة ذات قصص تلعب على ثيمات الأسطورة والخرافة والحكاية الشعبية، وتخلص منها إلى مزيج قصصي جريء، يختزل اللاواقع ليقدّم الواقع بكلّ جزئياته الجميلة والقبيحة، ويرسم السعادة بأرقى معانيها، ويكرّس الحزن بكلّ بشاعته وآلامه. وهي مجموعة تتميّز بقدرتها على تقديم مساحات كبيرة من المشاعر الإنسانية والعواطف البشرية بعيداً عن التابوات دون الإسفاف أو الوقوع في شرك المغالطات أو التناقضات أو المبالغات العقيمة، وإن كانت المجموعة تدين بالكثير من تماسكها النصي وتقنياتها السردية للعبة المفارقة التي تجعل للحرمان سداسية، وتجعل البحر كاذباً، وتجعل ملك القلوب بلا قلب، وتحوّل جداراً من زجاجٍ إلى قوةٍ تحجر على مشاعر أبطال قصته، و تجعل الطيران ممكناً لعاشقٍ ولو كان عاشقاً منكوداً، وهي ذاتها من تجعل رجلاً تعيساً جداً محظوظاً جداً في ليلة وضحاها، وهي من تدفع بالناس على السقوط من السماء، وهي من تسوّغ بكاء الشيطان في عالمٍ يدين بالكثير للأحلام والتجاوزات.
والمجموعة في بعض قصصها تلعب على تقنية القصة الأم التي تلد قصصاً من ذاتها، فسداسية الحرمان تتكوّن من ست قصص، وهي: المتوحش، المارد، الخصي، إكليل العرس، فتى الزهور، الثورة. كذلك قصة أكاذيب البحر تتكوّن من مجموعة قصص: أكذوبة الجزر، أكذوبة اللؤلؤ، أكذوبة النوارس، أكذوبة الجزر، أكذوبة الأمواج، أكذوبة المدّ والمرجان، أكذوبة الأصداف. تجمعها وحدة عددية، وإن كانت تقوم على فوضى التشظّي والاسترجاع والاستشراف وتداخل الحوارات الداخلية والخارجية لأجل نقل الحالة الشعورية التي يعيشها أبطال القصة.
أمّا في مجموعة ” الكابوس” الصادرة عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، وكانت قد حصلت المجموعة على الجائزة الأولى في القصة القصيرة للعام 2005، تتناول القصص مجموعة لقطات إن جاز التعبير، فهي قصص أقرب ما تكون إلى صور فوتوغرافية عفوية في الظاهر، لكنّها متعمدّة ومدروسة تمامًا عند التحديق بها، ففي اللحظة الأولى هي كثيرة السّخرية وعدم الاهتمام واللامبالاة بل و الدعوة إلى الضحك لالتقاطها صورًا مهمّشة أو غير مفسّرة أو غير متناسقة، لكن لحظات من التدقيق بها تقودنا إلى فجيعة الحقيقة وإلى تفاصيل الكابوس، الذي يستولي على كلّ جزئيات حياتنا، ويهصر سعادتنا، ويحطّم يقيننا وسلامنا المزعوم.
فمجموعة الكابوس هي التقاط لكلّ المسكوت عنه والمصادر يفعل قوى التابوات والمقدّسات وقوى الاستلاب، وإبراز لملامح بشاعته، وتنديد بمدى قسوته التي قد تصادر حقوق الإنسان حتى بالحلم والتمنّي والتوقّع والانتظار، وتحاصره في زاوية الهزيمة حيث لا يوجد إلا الاستسلام واجترار الأحزان والانكسارات.
وهذا المسكوت عنه قد يطال كلّ مفردات الحياة وأشخاصها وقواها وأشكالها، كما إنّه قد يحاصر كلّ الأشخاص وكلّ الطبقات في كلّ الأزمان والأماكن على وفق ظروفهم ومعطيات حياتهم، وتوافرهم على أسباب الحرمان أو العطاء المزعوم.
فالمجموعة لا تعد أبدًا بحلول، ولا تخجل أبدًا من التصريح بخوف أبطال قصصها، بل هي صرخة خوف حقيقية في وجه الخوف المسمّى (الكابوس) أيًّا كان شكله أو اسمه أو زمانه أو مكانه.
أمّا في مجموعة ” الهروب إلى آخر الدنيا فنجد الحبّ بتجليات وجوده واختفائه والحاجة إليه هو الوحدة الموضوعية أو الثيمة الرئيسة في مجموعة قصص الهروب إلى آخر الدنيا التي يبلغ عددها اثنتي عشرة قصّة، والحبّ فيها يعرض عبر قصصٍ مختلفةٍ، وأحداث متباينة، وشرائح مختلفة، وأشكالٍ نادرة، فالحبّ أشكالٌ وألوانٌ كما يعتقد الكثير من النّاس والشعوب والمفكرون، لكنّه في النهاية في هذه المجموعة القصصية قوّة ثابتة للتغيير والخير والنماء والسّعادة، وهو العنصر الأساس في أيّة تركيبة نجاحٍ أو سعادةٍ، ودونه تؤول الحياة إلى الفشل والتعاسة.
فالحبّ في هذه القصص يستولي على رصيدٍ لا يعرف نهاية من السّرد والأحداث، ويمتدّ أزماناً ساحقةً في القدم أو موغلةً في النفس الإنسانية، فيكشف العيوب، ويرسم حيرة النفس التائقة للإنعتاق من أغلالها عبر مشاعر الحبّ، وهو بذلك يملك طاقةً متجدّدةً لا تفنى تجعله يتكرّر كلّ يوم وفي كلّ مكانٍ مشكلاً حالةً منفردة في كلّ مرّة، وتاركاً بصمته التي لا تتكرّر.
فالحبّ في هذه المجموعة تماماً كالولادة أو الموت، يتكرّر بلا نهاية، ولكنّه في كلّ مرّة حالةً خاصةً، لها محدّداتها وصفاتها واستثنائيتها، وكذلك هو في مجموعة سناء شعلان، له أشكال وبصمات وحالات حبٍّ كلٌّ لها بصمتها وخصوصيتها.
ويبدو أنّ هذه المجموعة هي استكمال موضوعيّ لمجموعة “قافلة العطش “التي كانت قد صدرت للكاتبة في الأردن بدعم من أمانة عمّان الكبرى في مطلع عام 2006؛ إذ إنّ كليهما تعرضان أنماطاً وأشكالاً للحبّ.
ومن الجدير بالذكر أنّ الحبّ في هذه القصص له قوة سحريّة قادرة على أن تجعل القلوبَ تخفق، والدّماء تسري في الأوصال الميتة، والنّفوس تنتشي بالسعادة، والهمم الخاملة تستيقظ، والأنفس الشحيحة تجود، فهذه المجموعة تعدنا بالسّعادة بشرط أن نملك قوّة الحبّ، وأن نخلص لها، وأن نرعاها، وأن نتولاها بالنّماء والزيادة، وهي تفتح تجاربنا على كثير من الأسئلة الانسانية الشائكة التي تطرح نفسها بقوةٍ على مشهدنا الفكري والإنساني، مثل: الموت، والحياة، والخلود، والسعادة، والإخفاق، والعطاء.
سناء الشعلان في هذه المجموعة تطرح الحبّ بديلاً لكلّ تجارب الإخفاق التي تكبّدتها البشرية في التّواصل والسّعادة والتعايش والتفاهم والانسجام.
وهذه المجموعة تحيلنا إلى سابقتها ” قافلة العطش” التي تعرض بجرأة تنميطات وأشكال للحبّ، الذي يتجلّى في ثنائيات جدلية: كالوصل والحرمان، واللقاء والفراق، والتقارب والتباعد، و الرضا والغضب، الحزن والسعادة، ويستولي في هذه المجموعات على حيز كبير من المفارقات والتجاوزات الواقعية.
فقصص المجموعة تدين بالكثير لاستجلاب مفردات التراث والفنتازيا والخرافات والأساطير. فنجد تراث الوأد حاضرًا في القصة، كذلك خرافات الكنوز الموقوفة لرصد خرافي، وفنتازيا مشاركة الجمادات في الأحداث، فنجد القراءة واللعبة البلاستيكية والأرواح الراحلة عن أجساد أصحابها والقطط البيتية الأليفة والجنّيات تعشق، وتكون لها تجربتها الخاصة مع الحبّ، الذي يقدّم في هذه المجموعة على أنّه بديلٌ موضوعي للسعادة والهناء والسلام.
والقصص تجنح إلى طرح الحزن والفراق والهزيمة والفشل قرينًا شبه دائم للحبّ، وكأنّه تجسيد للواقع الحياتي المهزوم والمسحوق الذي يعيشه أبطال القصص، وتبقى القصص مفتوحة على التأويل والتجير والتفسير، فهل الحبّ هو علاقة خاصة لها محدّداتها الخاصة ؟ أم هو صورة اجتماعية من صور المجتمع بكلّ ما في مشهده الإنساني من أحلام وأماني وتناقضات وأحزان وانكسارات ؟أم هو بحث عن صيغة جديدة للبحث عن الفردوس المفقود في هذه الحياة ؟
أمّا مجموعة ” مذكرات رضيعة” فهي تحيلنا إلى عالم قصصي مختلف، فهذه المجموعة القصصية كما تقول كاتبتها سناء شعلان في الصفحة الثالثة منها إنّها كُتبتْ بالدّم، وهي مجموعة قصصية تسجيلية لأحداث حقيقية تروي معاناة بعض ضحايا تفجيرات العاصمة الأردنية في 9/11/2005م، حيث فجّر أكثر من إرهابي أنفسهم في ثلاثة فنادق أردنية كبيرة، كان في إحداها عرس تحوّل إلى مذبحة شنيعة، سقط فيها الكثير من الضحايا.
والمجموعة تحتوي على 23 قصة قصيرة، تروي أحداثاً حقيقية، وتُسرد القصص بالأسماء الحقيقية لضحاياها، كما إنّها تُسرد بتقنيات سردية متعدّدة، تغطي مساحات زمنية كبيرة، تتجاوز ليلة الانفجارات المشؤومة. فالقصص تُروى أحياناً بسرد لاحق او سابق أو متوازٍ مع الحدث، كما إنّ أصوات الرواة تتعدّد في المجموعة، فهناك الرواي العليم في بعض القصص، وهناك الراوي المشارك في الحدث في قصص أخرى، وفي أحيان أخرى هناك الراوي الشاهد أو البطل.
والقصص تستثمر مساحات فنتازية وتخيليية كبيرة؛ لتسلّط الضوء في النهاية على عظم معاناة الضحايا، وتصوّر هول الفجيعة، وبشاعة الجريمة. وهي في النهاية تخلص إلى قيمة إنسانية جمالية، تتلخّص في إعلاء قيمة الحياة مقابل التنديد بالموت والاستهتار بحياة الإنسان لاسيما المدنيين المسالمين منهم.
فهذه المجموعة القصصية تصلح أن تُعدّ رواية بفصول متعدّدة، لحمتها الأساسية هي التفجيرات في عمان عشية يوم 9/11/2005م،، ومحورها الرئيس هو رصد المعاناة والموت والفجيعة، فالقصص جميعها ذات وحدة موضوعية واحدة، فهي تبدأ بالفرح المذبوح في ليلة زفاف العروسين الأردنيين أشرف ونادية، اللذين لم يتمّ زفافهما في تلك الليلة المشؤومة بل مزّقهما الحزن على ضحايا العرس أمواتاً وجرحى ومروّعين من العائلة والأقارب والأصدقاء، انتهاءً بزفاف هبة غزالة وشكري عازر اللذين تحدّيا الموت والإرهاب، وأقاما زفافهما متحديين الألم والحزن في إحدى قاعات الفنادق المغدورة في أربعاء التفجيرات.
ولمّا كان الإرهاب الغاشم لا يعرف وطناً أو رحمة، ولايميّز بين صغير أو كبير، أو بين ضيف أو مواطن أو مغتربٍ، فقد كان الضحايا من جنسيات ٍ شتّى، فهناك العروسان والأهل الأردنيون، وهناك الفنان العالمي المبدع ذو الأصول السوريّة، وهناك التاجر الفلسطيني الكادح، وهناك الطالب والطالبة البحرينيان اللذان جاءا في رحلة نأي طويلة عن الأهل والوطن في سبيل تحصيل العلم، وهناك السائح القطري الذي جاء ليقتنص لحظات الراحة بعد شهور من العمل والجدّ، وهناك المقاتل الفلسطيني ذو التاريخ الكفاحي الطويل، وهناك الشقيق العراقي الذي هرب من بلاده حيث الموت وحروب العصابات ليجد الإرهاب في انتظاره.
فالمجموعة ذات البعد التسجيلي تمتدّ على مساحات شعورية إنسانية كبيرة ترصد أحزان ضحايا أُغتيلوا ببشاعةٍ دون ذنبٍ سوى إنّهم كانوا يبحثون عن لحظة سعادة واستجمام، ولذلك فالقصص تقترب من أدقّ تفاصيل حياة الضحايا، وترصد جزيئات حياتهم اليومية، وتسجّل أحلامهم وأمنياتهم التي ذرّاها الإرهاب رماداً، وأطعمها للنسيان، وهي بذلك تدين بلا ريبٍ الإرهاب شرّ إدانةٍ، فلا مسوّغ في الدنيا لهدر حياة إنسانٍ برىءٍ، أو ترويع آمن.
في حين إنّ مجموعة “ناسك الصومعة “هي مغامرة تجريبية جريئة لسناء شعلان في المزاوجة بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، ليس في مجموعة قصصية واحدة وحسب، بل في القصة الواحدة، لاسيما أنّ المجموعة تتّسم بسمة القصة الأم التي تلد قصصاً ضمن وحدة موضوعية واضحة.
والقصص المتوالدة في هذه المجموعة تكتسب شرعيتها وحدثها المحور أو فكرتها المحرّك للأحداث من أزمتها المشتركة مع القصة الأم، ويصل عدد القصص المتوالدة من القصة الأم في بعض الأحيان في المجموعة إلى 28 قصة قصيرة، كما إنّ هذه القصص تمتدّ من بضع سطور إلى بضع صفحات.
ولعلّ القلق والارتباك والشكّ والسخرية وشجب التداعي والسقوط بأنواعه هي الثيمات الرئيسة في هذه القصص التي تغزو المتلقّي بهواجسها بعد أن تقدّم نفسها له بلغة رشيقة أنيقة، تحتفي بالكلمة كما تحتفي بالألم والصراع والقلق الذي يسكنها، وتحاول أن تدّعي حياديتها، لكنّها تسقط بسهولة وبعد سبق إصرارٍ في فخّ الرّفض والتنديد، وهي في سبيل ذلك تتستّر طويلاً وراء الفنتازيا والمخيال الشعبي والتاريخ المفترض أو المتخيّل أو الفكاهة السّوداء أو السّرد الغرائبي والعجائبي أو خلف المفارقات المضحكة المبكية عبر 15 قصة قصيرة أو قصة قصيرة جداً.
أمّا مجموعة ” مقامات الاحتراق”، فتحمل الكثير من عذابات الإنسان وانكساراته واستلاباته، وتهاجم أصقاعًا ومساحات كبيرة من صراعات الإنسان مع ذاته ومع مجتمعه ومع ظروفه ومع قائمة الحرمان والقيود والمحرمات التي تكاد لا تنتهي، وذلك في خضمّ عجلة الحياة اليومية، وفي تزاحم تفاصيلها اليومية قـد يسحق الإنسان، ويجبر على التخلي عن أجزاء من إنسانيته لصالح القدرة على أن يبقى في مجتمع كاد يكون ماردًا قاسيًا يقسم كلّ من يعارضه.
والمجموعة تربط اسمها بالمقامات، لتحيلنا إلى فن قصصي قديم بمحاولة لخداعنا، وإيهامنا بأنّ ما سنقرأ في المجموعة هو مقامات مصنوعة هدفها الإبهاج والتعليم والتندر، لا وضع الألم في قالب فني مشهور، ولكن سرعان ما ينكسر توقعنا، عندما نجد قصص مقامات تبتعد عن الشكل التقليدي للمقامـة، وتصبُّ لفنها في خدمة فكرتها وقضيتها، وهي الاحتراق والألم أمام متناقضات لا تورث إلا تجربة المعاناة.
وتلعب المجموعة على مزاوجة القصة القصيرة مع القصة القصيرة جدًا مع القصص المتوالدة التي تحمل داخلها قصصًا ذات لحمة موضوعية معها. وهي تستحضر أجواءً فنتازية وتراثية، فتعود إلى الماضي، وتستحضر بعض شخصيات التراث، وتعاين الحاضر، وتتمثّل بعض أبرز أوضاعه، ثم تقفز إلى المستقبل بل وإلى ما وراء المستقبل، فتستحضر السماء والجنة والنار والممالك المزعومة، والسلاطين المجهولين، وتكثف الهزيمة والحروب في مواقف وأحزان وشخصيات منكسرة.
ويبقى القول إنّ عالم سناء الشعلان القصصي يشكل علامة في القصة العربية الحداثية، وهو يحتاج لأدوات نقدية كثيرة لتفكيكه وفهمه، في ضوء موهبة استثنائية تطالعنا بها سناء الشعلان في كلّ ما تكتب.