كتب: أ.د. أحمد ملاعبة .. والإعلامي أسعد العزّوني
قد يعيش الإنسان في وطن جميل فيه مبان وفلل وسقوف، تحتها قصور ووزارات وسفارات، ولكن الأجمل من ذلك كله هو أن تعيش في وطن بيئي فيه مقومات بيئية كاملة، وهو عبارة عن وطن صغير داخل الوطن الكبير.
جولتنا الجديدة في وادي بن حماد .. يمتاز وادي إبن حمّاد بجماليات وتضاريس تنافس أعتى وأجمل الأودية في العالم ،فمن العاصمة عمّان تنطلق نحو 100 كم إلى بلدة الربة ثم إلى بلدة راكين فبلدة بتير ،إذ تبدأ الرحلة بمغامرة رائعة لكنها صعبة بسبب التواء الطريق القديم بطول 7كم ،تستحضرك لعبة السلّم والحيّة ،حيث الإنحناءات التي تمشي مع كتف الوادي الملتوي، وهي أخطر جزء في مغامرة هذا الوادي،كما أن الطريق صعبة ليس فيها إتساع وهي مهترئة ،تقطعها مسايل ليست مؤهلة وفيضانات بحاجة إلى عبّارات تحت الطريق،من أجل الحفاظ على هذا الوادي العملاق وتسهيل الوصول إليه.
بعد هذه الرحلة الطويلة الممتعة رغم صعوبتها وخطورتها،تبدأ ظهور مزارع الزيتون والمزروعة على حوالي ١٥٠ دونم وبجانبها مزارع البندورة وتنتشر على حوالي ٢٠٠ دونم.
للوصول إلى أعماق الوادي لابد من أن تودع سكان منطقة الوادي البالغ عددهم ١٩٢ نسمة يتوزعون في ٤٥ منزل ويعمل معظمهم في الزراعة وآخرين يقدمون خدمات لوجستية لزوار الوادي، بعدها لابد رحلة المسير على الأقدام للوصول إلى بداية الوادي، لعدم قدرة المركبات على السير في هذه الثلاث كيلومترات، إذ تبدأ الرحلة الجمالية الشيقة بعدها، إذ تنزل على درج وجسر أنشيء للوصول إلى قاع الوادي، وتفاجأ بخرير وهدير المياه العلاجية الساخنة التي تجري في مسيلات الوادي.
يبدأ الوادي بسيق ضيق لمسافة تزيد عن 3.5 كم، وهذا السيق من أجمل أجزاء الوادي، ويعد السير في هذا السيق رحلة في عالم الخيال الطبيعي، إذ تكون أقدامك منغمسة في المياه، ساعة باردة وأخرى ساخنة تجري في مسيلات متجاورة ومتعددة، قادمة من الينابيع والشلالات المعدنية، وتم تأسيس جمعيات إدارية وبيئية تعنى بالوادي مثل جمعية وادي بن حماد البيئة وجمعية موظفي بلدية الكرك كما تم إنشاء مجموعة من الخدمات التي تتضمن مواقع للمبيت والتخييم ومرافق صحية مقبولة، ولكن ليست بالمستوى السياحي البيئي العالمي.
أهم ما يميز الوادي هو المياه الساخنة ولقد أنشأت جمعية موظفي بلدية الكرك، منشآت للإستحمام والسباحة في برك تبدو نسبيا مناسبة للموقع، وتبقى المياه الساخنة تجري عبر السيل حتى يتسع الوادي ،وتفترش الرمال والحصى أوديته لمسافة تزيد عن 11 كم، حتى تصب نهايته في البحر الميت.
يتضمن الوادي تنوعا نباتيا نادرا مثل غابات النخيل الباسق الكثيف وأشجار الطرفة والحلبا والكينا، والأشجار والشجيرات العطرية مثل النرجس و الريحان والزعتر البري والحبق والشيح والقيصوم والزعفران التي تعطي عبقا عطريا في المكان، يساعد الزوار على مدهم بالعزم رغم أن السير في الوادي في هذا الجزء نسبيا يعد سهلا، لأن أرضيته وخصوصا الجزء المتسع فيها إستواء، ولكن لا يخلو من التعرجات وجلاميد الصخور التي ربما تعيق تجاوز الوادي والسير في أعماقه، وفي الليل تسمع صغيب الأرانب ونباح الثعالب وعواء الذئاب ونقيق اللجا”الضفادع”،ويهديء من روعك صوت هديل الحمام البري والطيور الجميلة الأخرى مثل الزرور والوروار والدويري والحجل.
وثمة جمال لابد من الجدير ذكره هنا وهو كثرة الينابيع ذات الألوان الجميلة والتي تحمل معها بعض أكسيد الحديد الاحمر (معدن الهماتايت) والتي تخرج من بين مثل الصخور الرسولية الرملية وكأنها تنزف دما وأخري اكاسيد ومواد عضوية ذات اللون الأسود والأصفر والأخضر لتعطي جمالا غير معتاد، ورغم الألوان الجميلة إلا أن الينابيع ذات المياه الشفافة الرقراقة النقية متوفرة بكثرة وتعطي لذة للشاربين. العشاق المغامرة والتسلق بدرجاته المختلفة هناك مصاطب مستوية تنتهي بنزلات مختلفة الارتفاعات بعضها يتجاوز ال 30 مترا وخصوصا في بداية الوادي قبل إتساعه.
وادي إبن حمّاد هو وادي النحل، لكثرة النحل فيه والذي كان الأهالي قديما يستمتعون بالإلتقاط العسل الطبيعي من خلايا النحل هناك، وخصوصا النحل الذي كان يبني خلاياه وشمعه في الكهوف الصغيرة وعلى جنبات الجبال المحيطة، ويعد هذا العسل من أجود أنواع العسل في الطبيعة، وورد ذكره في القرآن الكريم، “وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ” صدق الله العظيم، وقدّر الله العسل الموجود في الأودية عندما قال:” أن إتخذي من الجبال بيوتا”، حيث قدمها على العسل الذي ينتجه النحل في خلاياه على الشجر أو الخلايا الصناعية التي يبنيها الإنسان له.
من خبايا وادي إبن حمّاد أن السر الكبير يكمن في التسمية، وورد في السجلات التاريخية أن هذا الوادي سمي بذلك نسبة إلى قبيلة بني حمّاد العربية التي عاشت في الوادي ، ويقال انهم قدموا من الأندلس عام 1492 ميلادي، كما يقال أن نصف القبيلة إنتقلت إلى عجلون، والرواية الأخرى تقول أن حمّاد وحامد قدما من الحجاز ، وهما حسب رواية السيد أبو محمد الذنيبات (يونس ذنيبات) إستوطنا في المنطقة وسمي الوادي نسبة إلى حمّاد، الذي كان يعيش أسفل الوادي وإنتقل للعيش شمال الأردن في عجلون وآخرين انتقلوا الى فلسطين بمنطقة تل الواد “سلواد” في رام الله. والآن معظم السكان من عشيرة المعايطة من بلدة بتير.
يمثل وادي ‘إبن حمّاد بمكنوناته الغزيرة أسطورة بيئية قل مثيلها وعزذ نطيرها ،وهو أيقونة الأودية العملاقة في الأردن، بشهادة العديد من علماء الطبيعة والسواح العالميين من أوروبا وأمريكا والسواح العرب وأبناء الوطن، ويستحق منا كل الوقوف معه بكل شموخ وإباء وإقتدار، لكي نصدر هذا الوادي العملاق، بعد تأهيله بطريقة تليق بمقوماته، وحسب الأسس المعمول بها عالميا لإظهار جماليات الوادي، وتحقيق إجراءات السلامة العامة وتجنب الكوارث والأزمات ،وهو أمر سهل ومتيسر في ظل الثورة التكنولوجية الذكية التي نعيشها.
ولا نبالغ إن قلنا أن هذا الوادي يعد من أحد أعظم الأودية في العالم، وهو يشهد لنفسه بنفسه،ويزيد على ذلك شهادة علماء البيئة والطبيعة والجيولوجيا والسياحة ،إذ أن هذا الوادي وفي كل متر منه يرفع شعار جمال وسياحة ،ودخل وطني برسم الإستثمار…فهل نحن فاعلون؟