تاريخيا توصف الدولة الأردنية بأنها “عاقلة” في سلوكها العام في تعاملها مع الأزمات والأحداث والقضايا أكانت داخلية أم خارجية، وتُوزن قراراتها بما تقتضيه المصلحة العليا للدولة الأردنية، وهي قرارات أبقت الأردن يتحرك متوازنا على Fine line خط رفيع في محيط يموج بالاستقطاب والتخندق، ما جنبت الأردن كلفا باهظة الأثمان كان فيها الأردن عملاقا بحجم القرار ودقته ونوعيته ومستواه في لحظات حاسمه من تاريخه الوطني!!
القرارات كثيرة والأمثلة عليها تطول الإشارة اليها، منها على سبيل المثال في زمن الكل يتسابق نحو اسرائيل، فان جلالة الملك قرر إنهاء العمل بملحقي اتفاقية الغمر والباقورة وعودتهما للسيادة الأردنية، منها ايضا رفض تسليم رغد صدام حسين للعراق أكثر من مرة رغم الإصرار والضغوطات، وقرارات أخرى رفض الأردن الانسياق مع بقية الحلفاء في دول المنطقة باعتبار جماعة الإخوان المسلمين تنظيما ارهابيا، وغيرها من الشواهد والأمثلة التي تؤكد ان الدولة الأردنية تتصرف من وحي الحرص العميق على مصالحها أولا ولاعتباراتها السيادية أخيرا!!
وظل موضوع إجراء الانتخابات النيابية دوما حاضرا بقوة كدلالة على قوة تمسك الأردن بنهج الإصلاح والتزام الأردن بالمواثيق الدولية في عملية الديمقراطية دون تأخير او إبطاء، ولم يكن الأردن يوما خارج السياق الإصلاحي او يتململ من عملية إجراء الانتخابات حينما كانت الظروف حتى السياسية منها صعبة والإقليم يعيش أحداثا ساخنة ودامية، وبقي الأردن الأكثر ثباتا ويمضي بثقة وقوة في تعزيز الركائز الإصلاحية ومنها الانتخابات -غير ابها بالظروف الحساسة والحرجة التي تعيشها المنطقة سياسيا- وذلك على مختلف مستوياتها بدءا من التشريعية وانتهاء بالنقابية والطلابية!!
تحدّى الأردن دوما ظروف الإقليم وتجاوز بحكمة قيادته كل الإرهاصات التي جعلت التجربة الأردنية محرجة لكثير من دول المنطقة لمستوى نضجها واستقرارها وثباتها، والتي لم تكن هذه الدول تجرُء ان تتحدث في غرفها المغلقة عن مفاهيم اساسية في العمل الديمقراطي من مثل مشاركة سياسية، وعي، اصلاح، مواطنة فاعلة، تنمية سياسية، تمكين مرأة، تصويت، وهكذا.
إذن الأردن لا يحتاج من أحد او ان يثبت لأي جهة انه ملتزم بنهج الإصلاح، فتاريخ الأردن انتخابيا شاهد على ذلك وبقوة، لجهة حجم المشاركة ونوعية مشاركة مكونات المجتمع واحزابه وطوائفه وشرائحه الاجتماعية، والأخطر ان الأردن ليس مضطرا ان يخوض هذه الانتخابات تقليدا لما تفعله الولايات المتحدة الامريكية في انتخاباتها الرئاسية المقبلة خلال أيام قادمة. إذ يربط البعض ان إجراء هذه الانتخابات أمرا ممكنا مقارنة بإقدام أمريكا على إجراء انتخاباتها الرئاسية الثلاثاء المقبل. صحيح أن السياق الوبائي واحد، وهو انتشار فايروس كورونا، لكن الأردن الصحي والطبي والاجتماعي ليس كأمريكا لا من قريب أو من بعيد، والمقلق حد الهلع المجتمعي ان الأردن اليوم يتوجه لإجراء انتخابات نيابية في ظل تسجيل أرقام غير مسبوقة عالمية من وفيات وإصابات مقارنة بعدد سكان الأردن ما يجعله بحسب خبراء صحة في قائمة الدول المتفشي بها كورونا!!
جلالة الملك قدم كل دعم ممكن لمؤسسات الدولة لإجراء الانتخابات النيابية، وترك تقدير إجرائها لتطورات الوضع الوبائي بحسب تصريحات ملكية سابقة، واليوم وفي ظل هذا التفشي المجتمعي غير المسبوق في أرقام إصابات كورونا، وحالات وفيات من الصف الأول للكادر الطبي من كبار المستشارين والجراحين في مستشفياتنا، وفي ظل عدم التزام مقرات وحملات مرشحي الانتخابات النيابية بشروط السلامة العامة، بات واجبا جدا على الهيئة المستقلة للانتخابات للتفكير الجاد والعقلاني لـ “تأجيل” إجراء الانتخابات النيابية الى إشعار آخر!!
الانتخابات النيابية بهذه اللحظات ليست “أولوية” أردنية في ظل انهيار القطاع الصحي بحسب الأرقام وتضخمها ومع تزايد انتشار فايروس كورونا، فالأولوية طبية هنا تقوم على حماية القطاع الصحي وحماية صحة المواطن الأردني، ولا يريد احد ان تصبح هذه الانتخابات “لعنة” في تاريخ الأردن بسبب ما يمكن ان ينجم عنها من ارتفاع حالات الإصابة او الوفيات بسبب عدم الالتزام بقواعد السلامة العامة.
ختاما، إن مجلس السياسات الوطني، المركز الوطني للأمن وإدارة الازمات، حكومة الدكتور بشر الخصاونة، ولجنة الأوبئة أمام مسؤولياتكم التاريخية والإنسانية كمؤسسات وطنية لتوجيه الهيئة المستقلة للانتخابات لمنع حالة “الانتحار” المجتمعي المرتقبة في حال أجريت الانتخابات في ظل هذا الوضع الصحي البائس، نريد من هذه المؤسسات التي نثق بحسن تقديرها وعمق قراراتها ان ترجع سياستنا “العاقلة” و “المتوازنة” و “الواقعية”، إذ ان الأردن وسلوكه السياسي لم يعرف يوما سياسات “التجريب” او “المغامرة”!! وان حصل وأجريت الانتخابات في ظل المؤشرات الصحية القائمة وحصل ما لا يحمد عقباه فماذا يفيدنا “العرس” الديمقراطي أمام ما هو متوقع من عشرات او مئات بيوت العزاء التي سيتم فتحها لما يمكن ان تحصده كورونا اثناء الانتخابات!! حينها هل نقول مباااارك نجاحكم ام عظم الله اجركم يا وطن!!! نعم في اعتقادي مازال هناك متسع من الوقت لمزيد من المراجعات، والهيئة المستقلة لللانتخابات مطالبة بمزيد من الإيضاحات والتطمينات الشفافة والمقنعة حول تأثير إجراء الانتخابات وسط هذا الارتفاع غير المسبوق في إصابات كورونا أردنيا!!