كتب:باسم سكجها
في النصف الثاني، من ثمانينيات القرن الماضي، قضيت يوماً كاملاً من الصباح إلى الرباح، مع طيّب الذكر: عبد الرؤوف الروابدة، ولكم أن تتخيّلوا المناطق العمّانية التي زرناها، باعتباره أمينًا للعاصمة التي أصبحت حينها أمانة عمان الكبرى، برؤية مستقبلية منه، ومع نهاية النهار سألته: ما هي أمنيتك الشخصية، هل هي رئاسة الوزراء؟ ردّ دون تردّد: أن أكون أميناً للقُدس الكبرى!
كان هو سائق السيارة، التي تجوّلنا فيها، وقُبيل الوصول، آخر النهار، سألته: المهندس وضاح العامري كتب دراسة قال فيها إن عمّان هي المدينة الوحيدة في العالم، التي تستطيع مشاهدة ثلاثة أرباعها من أي مكان فيها، فأبطأ السرعة، ربما لأن الفكرة راقت له، وسألني: وهل تعرف أن قانون الابنية الأردني اعتمد مقاييس القدس في الارتفاعات، حيث لا يمكن لها ان تتجاوز علو قبة الصخرة؟!
الحوار مع أبي عصام دوماً ممتع، ومفيد، فهو يحبّ التداول مع الأفكار الجديدة، ولا يبخل بإنتاج الرؤى المتجددة، وحين عرفت بعد ذلك بسنوات بمعلومات مؤكدة أنه كُلف برئاسة الحكومة، اتصلت به وسارعته القول: دولة الرئيس! فردّ ببدهيته وعفويته الجميلة: إسمع باسم جدي لا يلعب على ثور!
ولمّا كنت لحظتها في مطعم البستان، عند طاولة تطلّ على بيته، قُلت له: السيارات أمامي، ومعلوماتي مؤكدة، ووجهت له سؤالاً: نشرت في عدد اليوم صورة لك بمعية جلالة الملك مع فلان، وكان فلان يضحك وتحمل تعابير وجهك ابتسامة مخفية، فما هو التفسير: ضحك كما يفعل حين يكون مرتاحاً، وقال: طلبتها المشتهية وأخذتها المستحية!
أجبته بسرعة: إذن فكلمة مبروك واجبة!
في اليوم التالي، أعلن عن تكليفه رسمياً، وبدأ المشاورات، ليأتيني اتصال من مقرب منه يستدعيني للقائه أول أيام عيد الأضحى، فذهبت، وكان هناك حوار جانبي ليس هنا موقعه، وظلّ يلومني بعدها على مدار سنوات على موقفي، وكان على حق، وبعد هذا العمر، فأنا اعترف بأن الصواب جانبني.
كنت اعتبر نفسي تقدمياً، أكثر من حكومة عبد الرؤوف الروابدة، وخصوصاً في مسألتين، هما: طرد حركة حماس من الاردن، ومسألة تحوّل العقبة الى منطقة خاصة، وكتبتُ دون مواربة وبجرأة عن الموضوعين، وفي يوم قُبيل رحيل حكومته، وفي موقع مهم جداً، دخل دولته فانتبه إلى وجودي هناك، فتوجّه نحوي، وقال: هاي باسم هاو ار يو؟ رددتُ بالانجليزية ايضاً بأنني ممتاز، ولكن: لماذا تتحدث معي بالانجليزي، فسارع الى القول: حاولت الحديث معك بالعربية فلم تفهم، وربما تفهمني بالانجليزي أكثر!
كنت أيامها أمثل منظمة الشفافية الدولية في الأردن، وبالضرورة فقد كان يشير بذكائه الفطري إلى ذلك، وكان لي ردّي بالطبع، وهذا ما اعتقد أنه يحبه مني، ولكنّ أياماً قليلة مرت لتأتي حكومة جديدة، وتلك قصة أخرى…
أبو عصام لا يحمل في داخله حقداً، ولا يمارس سوى الحب والاحتواء الناعم، خصوصاً مع الذين يعرف انهم صادقون في مواقفهم حتى لو عارضوه وعاندوه، وكانوا ضدّه في مواقف، وهذا ما كان في السنوات اللاحقة معي، فقد تقاربت بيننا المسافات حتى وصلت الى نقطة الصفر، وفي لحظة وجدتني زميلاً له في اللجنة الملكية للنزاهة الوطنية، وهنا أشهد بأن العمل معه ثقافة وتعليم، والشهادة أمانة..
أكتب بسرعة عن الجميل عبد الرؤوف الروابدة، مع خبر اتصال جلالة الملك به للاطمئنان عن صحته، وهو أصلاً من أطلق عليه لقب (البولدوزر)، ويمكنني أن أجعله موضوع كتاب طويل، باعتباره من أهم الشخصيات الوطنية الجامعة المانعة التي مرت على بلادنا في الخمسين سنة الماضية، وربما أكثر، وللحديث بقية!