التعاونيات…. قوة اجتماعية – اقتصادية ناهضة بالأفراد والدول
كتب : مدير عام المؤسسة التعاونية الأردنية عبدالفتاح محمد الشلبي
لا يعدو القطاع التعاوني ممثلاً بالتعاونيات وأعضائها عن كونه رديفاً للقطاعين العام والخاص باعتباره قطاعاً ثالثاً في المنظومة الاقتصادية عموماً، وجزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد الاجتماعي التضامني، وعلى سويةٍ مباشرةٍ وعالية التأثير في عملية التنمية المستدامة الشاملة بشكلٍ خاصٍ، إذا ما علمنا بأن هذا القطاع يمثل نظاماً اقتصادياً اجتماعياً وتضامنياً يستند في هويته التعاونية إلى مبادئ وقيم عالمية أقرتها الدول الأعضاء في التحالف الدولي للتعاونيات ومنها الأردن، وهي عابرة للحدود والحواجز، تخدم الأفراد والدول على حدّ سواء.
ولأهمية التعاونيات في المجتمعات الإنسانية أدركت الدول الرائدة في مجالات العمل التعاوني ضرورة الانصهار والاندماج في بوتقةٍ واحدةٍ لإدارة وتضافر جهود الحركة التعاونية على المستوى العالمي، فكان تأسيس التحالف الدولي للتعاونيات ICA (Alliance International Cooperative) في العام 1895، والذي يُعتبر أحد أقدم المنظمات غير الحكومية، والأوسع تمثيلاً من حيث عدد الأعضاء عالمياً.
وأعقب التحالف الدولي للتعاونيات (ICA) مرحلة تأسيسه باعتماده سبعة مبادئ تعاونيةٍ عالميةٍ، هي العضوية الطوعية والمفتوحة، والسيطرة الديمقراطية للأعضاء، والمشاركة الاقتصادية للعضو، والإدارة الذاتية والاستقلالية، وإتاحة التعليم والتدريب والمعلومات، والتعاون بين التعاونيات، والاهتمام بالمجتمع، لتكون هذه المبادئ بوصلةً للحركة التعاونية أينما وجدت، تسترشد بها في مسيرتها العملية والتنموية، ونبراساً لها في طريقها نحو تحقيق الأهداف المرجوة والتطلعات المنشودة بحركة تعاونية مستقلة ومزدهرة ومعتمدة على ذاتها.
وفي خضم تلك المعطيات الأُممية، لم يكن الأردن بمنأىً عن استلهام ومحاكاة تجربة الحركة التعاونية العالمية، مع إداركه مبكراً لأهمية العمل التعاوني في المجتمعات المحلية، لا سيما في مناطق الريف، وليكون سباقاً في منطقته العربية، حيث أصدر الأردن أول تشريع تعاوني في العام 1952 ، والذي بموجبه تأسست دائرة الإنشاء التعاوني ضمن وزارة الإنشاء والتعمير آنذاك، ليتبع ذلك إنشاء أول جمعية تعاونية للتوفير والتسليف الزراعي في لواء الأغوار الجنوبية بمحافظة الكرك تحت مسمى “جمعية غور المزرعة وحديثه للتوفير والتسليف” في العام 1953.
منذ نشأة العمل التعاوني محلياً، لقيت الحركة التعاونية الأردنية مطلع خمسينات القرن المنصرم اهتماماً ملكياً ما زال موصولاً حتى يومنا، إذ لم تنفك القيادة الهاشمية المتوجةٍ بالمحبةِ والالتفاف الشعبي عن توفير الدعم للقطاع التعاوني على مرّ العقود على الصعد كافة، وما ذلك ببعيدٍ عنا مع ما تضمنته رؤية التحديث الاقتصادي التي حظيت برعايةٍ مباشرةٍ من قبل جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المفدى من أولوية العمل على تأسيس منظومة الجمعيات التعاونية والاتحادات الزراعية.
ومن جهةٍ أخرى، لقد تزامنت رؤية التحديث الاقتصادي على صعيد تطوير العمل التعاوني مع إطلاق الحكومة لخطة تطوير القطاع العام، والتي تبنت فيها إعادة هيكلة المؤسسة التعاونية الأردنية بالشكل الذي يضمن تحسين كفاءتها، وتعزيز دورها في دعم هذه الرؤية، إضافة إلى زيادة مساهمة التعاونيات في التنمية المحلية بما ينسجم مع شعار التحالف الدولي للتعاونيات لهذا العام (التعاونيات من أجل التنمية المستدامة) (Cooperative For Sustainable Development)، فضلاً عن تطوير الأنشطة الزراعية وغيرها من الأنشطة الاقتصادية، ناهيك عن التوسع في عملها والتوجه نحو استحداث صندوق مالي كنافذةٍ تمويليةٍ للتعاونيات، والتي يبلغ عددها 1500 تعاونية موزعة على مختلف محافظات المملكة، وتضم في عضويتها 133 ألف فرداً.
إن الاهتمام الملكي بالتعاونيات باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من منظومة العملية التنموية التي يوليها صاحب الجلالة، جُلّ الرعاية، والمتابعة المستمرة لمختلف المحاور وعلى كافة الأصعدة، يتمثل جلياً في إطلاق المبادرة الملكية لتفعيل دور الجمعيات التعاونية في العملية التنموية في مناطق البادية الأردنية، الأمر الذي انعكس ايجاباً على التعاونيات المستفيدة من الدعم الملكي سواءً على مستوى الأعضاء، وأبناء المجتمع المحلي من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية من خلال المشاريع المنفذة عبر هذا الدعم.
وهنا، لا بدّ من التأكيد على أهمية المبادرة الملكية في دعم القطاع التعاوني والتعاونيات، والجهود الإصلاحية التي تقوم بها المؤسسة التعاونية؛ للنهوض بهذا القطاع الحيوي، وفي سبيل تعزيز مكانة الحركة التعاونية بصورةٍ فاعلةٍ في المجتمع الأردني، خاصةً وأن إطلاق هذه المبادرة الملكية المقدرة شكل نبراساً وخارطة طريقٍ للخطط والبرامج الحكومية ذات العلاقة بعملية التحديث على المستويين الإداري والإقتصادي.
ولا يتوقف دعم التعاونيات عند تلك الاسهامات الرامية للنهوض بالقطاع التعاوني في الأردن، خاصةً وأن وزارة الزراعة ممثلةً بوزيرها المهندس خالد الحنيفات/ رئيس مجلس إدارة المؤسسة التعاونية الأردنية، لا يألو جهداً في توفير الدعم لها، وتحديداً للجمعيات التعاونية الزراعية، لما لها من دورٍ هامٍ في تعزيز منظومة الأمن الغذائي، فضلاً عن توجيهاته المستمرة لتأسيس جمعيات تعاونية نوعية متخصصة تضم في عضويتها الأطراف ذات الميزة النسبية الواحدة في كل منطقة أو محافظة؛ وذلك بهدف تعظيم القيمة المضافة للمنتجات الزراعية، من خلال تقديم الدعم اللازم لهذه التعاونيات النوعية -قيد التأسيس- على كافة المستويات الفنية والتقنية والإرشادية، وتيسير سبل اتصالها مع الجهات المانحة للاستفادة منها ما أمكن في تعزيز نشاطاتها وأعمالها، وكذلك العمل على خفض كلف مستلزمات الإنتاج ذات التماس المباشر بالجمعيات التعاونية الزراعية.
ومواكبةً لتلك التوجهات الراميةً إلى ايجاد قطاع تعاوني أكثر فاعليةً وتأثيراً على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، عملت المؤسسة التعاونية الأردنية على مواءمة مخرجات استراتيجيتها الوطنية للحركة التعاونية الأردنية للأعوام (2021-2025) وبرنامجها التنفيذي بدءاً من إدخال تعديلاتٍ على التشريعات الناظمة للعمل التعاوني بالشكل الذي ينسجم مع مقتضيات رؤية التحديث الاقتصادي وخطة تطوير القطاع العام وصولاً إلى تشريعاتٍ منسجمةٍ مع المعطيات الدولية، وسيراً في إجراءات تأسيس صندوق التنمية التعاوني الذي يقوم على توفير المنح والقروض للتعاونيات، وليس آخراً، حثّ الخُطى نحو إعادة إحياء معهد التنمية التعاوني باعتباره نواةً للتأهيل الأكاديمي في مجالات التعاون.
هذا العام، يشارك الأردن دول العالم الاحتفاء بيوم التعاون الدولي الـ101، والذي يصادف حلوله في أول يوم سبتٍ من شهر تموزٍ من كل عامٍ، تحت شعار (التعاونيات من أجل التنمية المستدامة) (For Sustainable Development Cooperatives)، خاصةً وأن التعاونيات تساهم في عملية الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في مختلف المناطق والقطاعات، وبما يضمن حماية العلاقات المجتمعية، وتعزيز الموارد المحلية، والدعوة إلى المسؤولية الاجتماعية، واعتماد ممارسات اقتصادية مستدامة وطويلة الأجل.
وبذلك يعتبر قطاع التعاون محركاً أساسياً لمنظومة الاقتصاد- الاجتماعي؛ لِما له من اسهاماتٍ على صعيد الاستثمار سواء في المشاريع الزراعية والصناعات التحويلية والاسكانية، والسياحية والبيئية وغيرها من المجالات، ولدوره كذلك في توفير فرص عملٍ للقوى العاملة من الأعضاء التعاونيين وأبناء المجتمع، وبالتالي المساهمة قي معالجة ظاهرتي الفقر والبطالة، فضلاً عن المشاركة في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية للأفراد والدول، وزيادة التنافسية والاستفادة من وفورات الحجوم الاقتصادية، وإعلاء قيم التعليم والتدريب التعاوني وقيم الديمقراطية، وتعزيز منظومة الأمن الغذائي، والاهتمام بالمجتمع باعتباره حاضنةً للتعاونيات؛ مما يجعل من هذا القطاع الحيوي أحد أهم وسائل التنمية المستدامة.
وإلتزاماً من المؤسسة التعاونية الأردنية بإحياء هذه الاحتفالية العالمية العزيزة على قلوب أعضاء الحركة التعاونية على امتداد أرجاء المعمورة، فإننا نجدد التأكيد على العمل بما أوتينا من قوةٍ للنهوض بقطاع التعاون آخذين بعين الاعتبار جملة المتطلبات والأولويات التي رسمتها رؤية التحديث الاقتصادي من ناحية، وخطة تطوير القطاع العام من ناحية أخرى، والاشتباك معها بشكل ايجابي من خلال استراتيجيتنا الوطنية في السعي نحو ايجاد حركةٍ تعاونيةٍ مستقلةٍ ومزدهرةٍ ومعتمدةٍ على ذاتها ترتقي بأردننا العزيز إلى مصاف الدول المتقدمة في هذا المضمار؛ ولتضاهي حركته التعاونية نظيراتها على مستوى العالم، ولتكون التعاونيات أحد أدوات التنمية المستدامة الفاعلة دوماً في مجتمعنا المحلي.
إذ لا يمكن القفز على دور التعاونيات ومساهمتها في العملية التنموية محلياً بالرغم من محدودية تأثيرها في الناتج القومي الإجمالي للدولة الأردنية؛ خاصةً إذا ما نظرنا إلى مدى انتشارها على رقعة الوطن بين ظهرانيي أبنائه في البوادي والقرى والمدن، وانخراط مختلف الفئات العمرية في العمل التعاوني، وإقبال الشباب والنساء على تأسيس التعاونيات لإقامة مشاريعهم الخاصة؛ تعزيزاً لمبدأ المشاركة الاقتصادية بين الأعضاء، والتوزيع العادل للمكتسبات المتحققة منها.
وعلى الصعيد الوطني، اتسعت مشاركة المرأة في العمل التعاوني باعتبار التعاونيات أحد الموارد المالية المتاحة لها لتمكينها اقتصادياً واجتماعياً في ذات الآن، إذ نشهد اليوم وجود 79 جمعية تعاونية نسائية في مختلف محافظات المملكة، تضم في عضويتها 3570 سيدة، وفي الوقت ذاته يُقبل الشباب الأردني، لا سيما من خريجي الجامعات، على الانخراط في هذا القطاع الحيوي من خلال تأسيسهم لجمعيات تعاونية تقوم في عضويتها على فئة الشباب من كلا الجنسين، ذكوراً وإناثاً؛ إيماناً منهم بأهمية العمل التعاوني في تغيير مسار حياتهم بإقامة مشاريعهم الخاصة، والتي بطبيعة الحال توفر فرص عملٍ لهم، وتضع حداً لواقع البطالة وحالة الفقر في المجتمع على اعتبار التعاونيات أحد الوسائل الناجعة، ومورداً لا يقل أهميةً عن بقية الموارد في رفد الإنسان، اقتصادياً واجتماعياً.