كتب : موسى إبراهيم أبو رياش
سيبقى الثاني من آب/أغسطس 1990 تاريخًا فاصلًا في المنطقة العربية، فهو ليس تاريخ احتلال القوات العراقية للكويت فحسب، بل بداية تحولات وتغييرات ومحاور شملت كثيرًا من دول العالم وخاصة الدول العربية دون استثناء، فقد قسمت الدول العربية المقسمة أصلًا إلى محاور مع وضد، كما أنها كانت البداية للإجهاز على العراق الدولة والإنسان والحضارة، وتفاقم التدخلات الدولية في المنطقة، ودخول دولها في سباق تسلح وتعاون ومعاهدات وأحلاف عسكرية، وتغيير جذري في السياسات والتحولات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والتعليمية وغيرها.
وجاءت رواية «كويت.. بغداد.. عمّان» لأُسيد الحوتري لتعيد فتح صفحة هذا التاريخ من جديد، في محاولة جريئة لإعادة النظر فيما جرى، وتوضيح ما التبس من المواقف والقرارات، والتأكيد على حقيقة أن الشعوب يجب أن تبقى بمنأى عن الصراعات السياسية بين قيادات الدول، ولا ينبغي أن تؤاخذ على قرارات ليس لها فيها ناقة أو بعير، وهذه القيادات تتصارع اليوم وتصطلح في الغد، أما الشرخ بين الشعوب فمن الصعب أن يندمل أو ينسى، وتبقى آثاره آمادًا بعيدة، وقد تورث من جيل إلى جيل.
رواية «كويت.. بغداد.. عمّان»، رواية سياسية بامتياز، رسالتها واضحة، تناولت موضوعات كثيرة أخرى، مثل بدايات احتلال فلسطين والثورات الفلسطينية، والوحدة بين مصر وسوريا، وحرب الخليج الأولى، وغيرها من الأحداث، إلا أن الرواية تؤكد كخلاصة أن الآثار السياسية تلوث كل شيء، وتفرّق بين المرء وأخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته التي تؤويه.
عرجت الرواية على مشاركة القوات الكويتية على الجبهة المصرية في حربي 1967 والاستنزاف، وفي حرب 1973 على الجبهة السورية، وأشادت بمشاركة الجيش العراقي في حرب 1948 ومواقفه الشجاعة التي لولا تدخل قيادته المركزية في بغداد لكان لنتيجة الحرب شكل آخر، كما أشارت إلى مشاركة الأمير فهد الأحمد الصباح في القتال مع الفدائيين من الأردن، وشارك من قبل في حرب 1967 وكان عضوًا في حركة فتح وصديقًا لياسر عرفات، وشاء القدر أن يستشهد دفاعًا عن الكويت في الثاني من آب 1990. وتناولت الرواية مواقف القادة العراقيين من الكويت ومطالبة بعضهم بضمها إلى العراق، إلى أن انتهت باجتياح القوات العراقية للكويت ودخول المنطقة في نفق مظلم لم تخرج منه حتى اللحظة، هذا الاجتياح الذي كان متوقعًا وإرهاصاته واضحة.
احتلت رسالة شاب كويتي إلى صديقه الفلسطيني بؤرة الرواية، هذا الفلسطيني الذي ولد وعاش في الكويت وغادرها مكرهًا، وحملت الرسالة رأي الشاب الكويتي وموقفه من أحداث كثيرة، وخاصة مواقف الدول العربية مما جرى للكويت، وحللت الرسالة هذه المواقف وكثير من الأحداث بما يلقي الضوء على كثير من الغموض، وأنه لا يفترض أن تعمينا الحملات الإعلامية المضللة عن الحقائق، هذا الشاب الكويتي لم يتعصب بل أنصف من وجهة نظره، وكان جريئًا إلى حد أن الشاب الفلسطيني شكك في الرسالة ومرسلها.
أوضحت الرسالة بالمنطق والتحليل الهادئ أن تصنيف مواقف الدول العربية من احتلال الكويت أنه مع وضد أمر غير صحيح ويظلم كثيرًا من الدول، وما تبع ذلك من مواقف بالغة الخطورة أثرت على النسيج الشعبي العربي، وظلمت كثيرًا من الشعوب دون وجه حق. وأن مواقف الدول كانت بشأن قرار الجامعة العربية، وليس بشأن الاحتلال العراقي، فلا يعقل أن أي دولة تؤيد احتلال دولة أخرى ذات سيادة وعضو في الجامعة العربية، وإلا تشرعن الاحتلالات التي قد تكون ضحيتها يومًا، وعلى نفسها جنت براقش، ولكن كانت المواقف بشأن قرار متسرع للجامعة العربية لم يتخذ بالإجماع على غير العادة، ولم يخضع للمناقشات الموسعة والكافية من الدول المشاركة، خاصة وأنه يسمح بالتدخلات العسكرية على حساب الحل السياسي والدبلوماسي.
وتؤكد الرسالة أن «كل العرب كانوا مع الكويت قلبًا وقالبًا إلا ما ندر، والسواد الأعظم من الذين خرجوا في مظاهرات تأييدًا للعراق فيما بعد، عارضوا الحرب التي كانت ستشن على أرض وشعب ومقدرات العراق، ولم يخرجوا تأييدًا لغزو الكويت». وتشير الرسالة إلى أمر غاية في الأهمية أن كل الحروب والخلافات التي تشعل في المنطقة هدفها الأساس هو استنزاف ثروات المنطقة ونهبها وإضعافها لصالح السيطرة والتحكم فيها وفي سياساتها ومستقبلها.
وظفت الرواية بفنية عالية تقنية استرجاع الذاكرة المتقطع لرجل فقد الذاكرة؛ لكتابة فصولها وأحداثها، أي أن الرواية هي تسجيل لذكريات مستعادة متقطعة، لرجل فلسطيني ولد في الكويت ودرس فيها وعرف مناطقها وناسها، وله فيها علاقات وصداقات وذكريات، عاد مكرهًا إلى عمان مرورًا ببغداد، ويجرفه الحنين إلى العودة إلى الكويت التي اعتبرها وطنًا له، ولم يتصور يومًا أن يغادرها مرغمًا، وحياة هذا الرجل تتقاطع في بعض جوانبها مع الكاتب الذي ولد وعاش في الكويت، والذي يهدي روايته: «إلى ذلك الطفل الذي يحتضر في داخلي، والذي لا زال يحيا على أرض الكويت».
الرواية غنية جدًا بالاقتباسات والإحالات إلى روايات وكتب وأفلام ومسرحيات ودعايات وأغانٍ ومسلسلات وأخبار وذكريات، التي جاءت عفوية سلسلة كجزء من النص، يزيده عمقًا وثراءً، ويختصر كثيرًا من الكلام والشرح والتفصيل، ويؤكد على سعة ثقافة الكاتب وقدرته الفذة على توظيف وهضم خبراته وقراءاته ومشاهداته في نص إبداعي، كما أنها تأتي تأكيدًا على أن الرواية قادرة على استيعاب كثير من الفنون والإبداعات في فضائها الرحب.
هناك الكثير الكثير الذي يمكن الحديث عنه في الرواية من المعلومات والأحداث والموضوعات والمفاجآت والمفارقات والتقنيات، ولكن تركنا ذلك كله للقارئ ليكتشفه بنفسه؛ لئلا نفسد عليه متعته ورحلته الجميلة في صفحات هذه الرواية المميزة المختلفة التي تستحق القراءة.
وبعد؛؛؛ فإن «كويت.. بغداد.. عمّان»، عمّان: دار الآن ناشرون، 2022، 248 صفحة، رواية جريئة إشكالية، تدعو لإعادة النظر في تاريخنا القريب، وأن لا نأخذ الأمور على علاتها، ولا تعمينا سطوة الإعلام عن الحقيقة وما خفي من الأمور، وأن الأمور ليست كما تبدو على السطح، وكتبت الرواية بلغة جميلة، ووظفت تقنيات فنية مختلفة، وتميزت بسردها السلس الممتع الذي يغري القارئ بالمتابعة، كما أن الرواية تدفع القارئ المهتم بالبحث والاستزادة والتثبت مما أوردته في ثناياها.
وهذه الرواية هي الأولى للكاتب الأردني أُسيد الحوتري الذي يحمل درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي، وصدر له من قبل ثلاث مجموعات قصصية: «النظرات»، «الهمسات»، «اللمسات»، بالإضافة إلى مجموعتين مشتركتين: «نحت على جدار الورق»، و«ما وراء الحوار»، وكتاب «سعادتك: فن التعامل مع النعم»، وكتاب «حياة خاتم الأنبياء.. مختصر السيرة النبوية للأطفال»، باللغتين العربية والإنجليزية، بالإضافة إلى العديد من الدراسات والمقالات النقدية المنشورة، وهو ناشط ثقافي، وعضو رابطة الكتاب الأردنيين.