بقلم: طارق عودة (كاتب أردني)
عبر ومضات الحنين، والحلم بعودة الأزمان، وتمني لو أنّ الذي كان ما كان، تمضي وقائع دهور يوغل أسيد الحوتري في الرقص على أنغامها معددا مآسيها وأهوالها.
يفتتح الحوتري، المولود في الكويت جسديا والمرتبط بالعروبة جذريا، روايته بإهداء يقول فيه: “إلى ذلك الطفل الذي يحتضر في داخلي، والذي لا يزال يحيا على أرض الكويت”.
تبدأ الرواية بمشهد دراماتيكي لسعيد البحتري: الشخصية الرئيسة في الرواية والذي هو فتى أردني الجنسية، فلسطيني المنبت، كويتي النشأة، تبدأ الرواية بمحاولة اعتقاله من قبل دورية عسكرية عراقية إبان الاجتياح العراقي للكويت في الثاني من آب عام 1990؛ هذا الاجتياح الذي شرخ وكسر القاعدة الصلبة لكل المعاني التي كانت راسخة متجذرة في العروبة، وفي الوطن والدم العربيين. يرفض سعيد الاستجابة لأوامر الدورية العراقية بتسليم نفسه، ليتم إطلاق النار باتجاهه، فيلتفت سعيد لا شعوريا نحو الرصاص المنطلق نحوه، فيُكشف عن سعيد غطاء الماضي والحاضر والمستقبل ليرى من آيات ربه الكبرى، وتبدأ بعد ذلك أحداث الرواية بالتعاقب لتشكل توثيقا تاريخيا واجتماعيا واقتصاديا وتفسيرا لبعض ما استعصى على الفهم من أحداث تاريخية.
يكتشف القارئ خلال تجواله في الرواية بأنه أمام نص عميق ومكثف، ذو لغة تغص بتعابير قوية وعميقة استمدت الكثير من ألفاظها وتراكيبها من النصوص المقدسة وخاصة من القران الكريم.
يسرح الروائي ويمرح بكل التفاصيل التي يقدمها، ويختال بجودة معرفته وفرادتها، وخصوصا بكل ما هو كويتي أو ذو صلة بالكويت، وكأنه مواطن كويتي أبّا عن جد؛ ولولا أني أعرف الكاتب شخصيا لظننته كويتيا من دقة وقوة إحاطته بواقع الكويت ويوميات تلك الحقبة الزمنية.
رواية (كويت بغداد عمّان) تعيد رسم واقع المنطقة العربية دون محاباة، أو تجنّي، أو ظلم أو انحياز، كما أنها تسمي الأشياء بأسمائها ومسمياتها، وهذه الموضوعية تحسب للكاتب.
كما تعيد الرواية الاستمتاع بكل جميل كان في ذلك الوقت من أدب وفن: كالأغاني، والمسرحيات، وغيرها.
أما على مستوى السرد فقد استعمل الكاتب مستويات مختلفة من السرد: كالرسالة، والمذكرات الشخصية، وسرد الوقائع التاريخية، ولم تخلو الرواية من حوارات شيّقة.
لقد استطاعت الرواية إسماع صوت فلسطين الحقيقية، وصوت والإنسان العربي، وسلطت الضوء على التباين بين موقف الشعب وحسابات السلطة، كما وبينت المستفيد من حرب داحس والغبراء التي أهلكت الحرث والنسل، وأفسدت ذات البين، وشقت الصف العربي. هذا وقد أوضحت الرواية أيضا أن الطريق لتحرير فلسطين والقدس لا يمكن أن يكون عبر الاستكبار، والغلو، وظلم العربي لأخيه العربي أو عبر استلاب الأوطان.
إن استرجاع القدس لا يكون إلا بالتوجه مباشرة نحوها، ولا يتم ذلك أبدا عبر شعارات طنانة ورنانة، وديكتاتوريات حمقاء، وأمجاد زائفة تغذّت على دم الضعفاء، وشُيدت على قهر الشعوب، ونهب ثرواتها، وسلب مقدراتها وإضاعتها في حروب جانبية حادت عن طريق تحرير الأرض والإنسان. المجد والخلود لا يكونان إلا لكل من رأى الحق حقا واتبعه.
لقد وظفت الرواية الأدب والفن الكويتي والعربي كمسرحيات عبد لحسين عبد الرضا وغانم الصالح في تعرية الظلم، واستفادت من روايات السنعوسي وبثينة العيسى في بيان مساوئ التفرقة، والعنصرية، والشوفينية والطائفية، التي لاتخدم عرقا ولا وطنا ولا شعبا بل هي السم الذي يفسد الزرع والضرع.
لعب الكاتب دور الصادح بالحق والذاكر لأفضال العرب الذين نافحوا عن حياضهم وحماهم، والذين تكاتفوا ودافعوا عن بعضهم البعض، فكانوا صفا واحدا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، ووُضح ذلك عبر تعداد وقفاتهم المالية والمعنوية والعسكرية في كثير من حروب التي خاضتها الأمة وعبر الإشارة إلى صراعات الأمة مع المستعمر المحتل، والعدو الغاصب. كما وتطرقت الرواية إلى فئات غُبنت وكانت تستحق الرفق بدلا من التنكيل والتشفي في لحظات استعادة القوة.
رواية (كويت بغداد عمّان) إنجاز أدبي ذو بصمة إنسانية جامعة ومفسرة وموضحة وهي بلسم في طريق تشافي الأمة من داء الفرقة التي أذهبت ريحها.