الشيخ الجليل، المؤذّن/ محمد الحمصي/ أبو إبراهيم .. يرحمه الله!
بقـلم القضاه د.خالـد سلمـان
الشيخ الجليل، المؤذّن/ محمد إبراهيم محمد الحمصي/ أبو إبراهيم يرحمه الله، كان من مواليد عام 1922، حيث جاء أبوه من سوريا قبل ذلك بعشر سنوات، واستقر حينها في كفرنجة. وقد درس الشيخ محمد الحمصي يرحمه الله، لدى الكتاتيب في كفرنجه منذ طفولته، ثم في نحو الرابعة عشرة من العمر، انتقل للدراسة في المدارس الشرعية في إربد، حيث تتلمذ على أيدي مشايخها، وخصوصا الشيخ المعروف (جميل البرقاوي)، الذي كان يعلّم الطلبة علوم القرآن الكريم مع التفسير، وأحكام التلاوة والحديث النبوي الشريف. وبعد ذلك رحلت عائلة الشيخ محمد الحمصي إلى عجلون، فعمل شيخنا مع والده الشيخ إبراهيم في مجال التجارة وبيطرة الخيول (بالطب العربي)، حيث أخذ هذه الحرفة عن أبيه وأجداده في سوريا قبل أن يأتوا إلى الأردن.
…
كان الشيخ الجليل إبراهيم الحمصي (والد الشيخ المؤذّن) ملتزماً بالصلاة بالمسجد، وكان جميل الصوت في قراءته للقرآن الكريم والمدائح النبوية، وكذلك كان يمتلك صوتا جميلا جَهوريا عند رفع الأذان في مسجد عجلون الكبير (قبل وجود سماعات المئذنة). وفي ذلك الوقت كان الشيخ محمد الحمصي (الابن) شاباً في مقتبل العمر حيث كان في الخامسة عشرة فقط (1937). وقد طلب الشيخ الأب من ابنه الشاب ذات مرة آنذاك أن يؤذّن في المسجد؛ فاندهش المصلّون وأهالي عجلون من جمال صوته وقوّته، بل أصرّوا على أن يتم تعيينه مؤذّنا للمسجد مقابل أن يجمعوا له ما يتيسر من راتب. ومكث الشيخ الشاب محمد الحمصي نحو أربع سنوات وهو مؤذّن للمسجد، يتقاضى راتباً شهرياً من أهالي عجلون، حيث لم يكن حينها ما يُعرف الآن بوزارة الأوقاف.
…
في سن التاسعة عشرة (1941)، سافر الشيخ أبو إبراهيم يرحمه الله إلى سوريا لزيارة أقاربه في حي الميدان/ مدينة دمشق، ولكن تم احتجازه هناك بحجّة أنه مواطن سوري مطلوب للتجنيد الإلزامي في الجيش. وبالفعل تم تجنيده في الجيش السوري في وحدات عسكرية وأماكن مختلفة، إلى أن طلب منهم الانتقال إلى الوحدات التي تستخدم الخيول ليعمل فيها خلال خدمته في بيطرة الخيول وحذوها؛ واستُجيب لطلبه، والتحق بسلاح الفرسان السوري لنحو سنة. وفي تلك الأثناء، كان الشيخ الحمصي يذهب إلى المسجد الأموي في الشام خلال إجازاته، حيث تعرّف على مشايخ كثر، منهم الشيخ (محمد الكالوتي)، وكان يحضر حلقات الدراسة والذِكر ويحفظ قصائد المديح النبوي. وقد أعجب به هؤلاء المشايخ؛ أعجبوا بذكائه وسرعة بديهته وسرعة حفظه للقرآن الكريم.
…
عندما أنهى الشيخ الجليل محمد الحمصي خدمته العسكرية في سوريا وهو في سن الثانية والعشرين تقريبا (1944م)، رجع إلى أهله في عجلون، وجلب معه العديد من الكتب الدينية القديمة (في مجالات التفسير والفقه والسيرة النبوية الشريفة والأدعية والمأثورات، والأوراد المأثورة عن المشايخ ….الخ). وعاد حينها مؤذّنا لمسجد عجلون الكبير، بالإضافة إلى مساعدته لوالده الشيخ إبراهيم في متجره الخاص (في وسط عجلون). وعندما توفّي والده (الشيخ إبراهيم الحمصي) في عام 1990م، تابع الشيخ محمد إدارة الدكان، إضافة إلى حذو الخيول ومعالجتها حتى عام 2003م، أي حتى بلوغه سن الحادية والثمانين.
…
حصل الشيخ الحمصي على الجنسية الأردنية كونه من مواليد الأردن، وفي عام 1958م، عندما استحدُثت وزارة الأوقاف، تم إنشاء أوقاف عجلون، والتي كانت تحتوي أيضا على مكتب القاضي الشرعي (وحينها تم تعيين الشيخ محمد الصمادي مديرا لأوقاف عجلون)، وعلى الفور، تم تعيين الشيخ محمد الحمصي بشكل رسمي مؤذّناً وإماماً لمسجد عجلون الكبير. وبقي الشيخ الحمصي، يرحمه الله، منذ ذالك الوقت ولحين وفاته في صيف 2010م المؤذن الرسمي لأقدم مسجد تاريخي يرجع إلى عصر الدولتين الأيوبية والمملوكية (مسجد عجلون الكبير). وهذا يعني أنه ظل مؤذّنا للمسجد نحو سبعين سنة، ويقال إنه كان أول مؤذن في الأردن بشكل رسمي. ولم يصدف أن غاب الشيخ الحمصي عن المسجد إلا لظروف قاهرة جدا، وكان حتى في وقت الثلج وأيام البرد القارس يذهب للمسجد قبل وقت الأذان بحوالي ساعة، للاستغفار والدعاء وقراءة القرآن الكريم؛ بل كان ملتزما جدا ويحب المسجد حتى أثناء إجازته كان يذهب ويؤذّن للصلاة!
…
الشيخ الجليل محمد الحمصي – يرحمه الله – اشتهر في إحياء مجالس الذِكر والتسابيح والتهجد في شهر رمضان المبارك، وكان يلبّي طلبات كل من يدعوه لذلك؛ حيث كانت تقام مجالس المدح النبوي الشريف والصلاة على رسول الله واصطناع الولائم والحلوى ووضع الشعير والزيت وذلك للتبرّك ببخوره ببركة المولد. وكان يصحبه في ذلك الشيخ راتب جميل الصمادي، ليردد وراءه المدح والصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلّم. وقد عُرف عن الشيخ الحمصي الصدقُ والطيبة والأمانة وحُسن المعاملة والخُلُق والالتزام بشرع الله سبحانه وتعالى. كما كان زاهداً كريماً يحب الفقراء؛ وكان لديه قائمة بأسماء الفقراء والمحتاجين واليتامى، ويخصص لهم ما يتيسر من مساعدات مادية وعينية، خصوصا في شهر رمضان المبارك.
…
كان الشيخ الحمصي يرحمه الله، حافظاً لكتاب الله عن ظهر قلب، وكان يختمه قراءةً كل أسبوع. وكان يصوم الإثنين والخميس دائما، وكذلك الأيام المباركه الأخرى (ستة أيام من شوال، ومنتصف شعبان، وعشرة أيام من ذي الحجة وغيرها). وكان يرحمه الله يتّسم بالجدّية في بيته، ذا مهابة، وكان لا يتهاون مع أبنائه وابنتيه في مسألة الصلاة وقراءة القرآن والأخلاق الحميدة. وكان لا يحضر الأعراس التي فيها غناء وموسيقا، وكذلك يكره وجود التلفزيون في البيت. وخلاف ذلك، كان يشارك في جميع دواوين العزاء ويقرأ ما يتيسر من القرآن والدعاء للمتوفىٰ. وكان يكره المظاهر في اللباس، حيث رفض اعتمار العمامة، وآثر البساطة في لباسه، كعامّة المصلّين. وكان صبوراً جدا، وخصوصاً مع كبار السن في تعليمهم القرآن وأحكام التجويد وشرح وتفسير القرآن والأحاديث النبوية، وكذلك كان يرأف بكبار السن بحيث لا يطيل عليهم خلال إمامته لهم.
…
الشيخ محمد الحمصي يرحمه الله، كان يمقت ويكره النميمة والنفاق والمنافقين، وكان يشارك جيرانه وأصدقاءه من المسيحيين في حالات العزاء. لكنه لم يكن يحب إبرام عقود الزواج أو تغسيل وتكفين الموتى. وكان يرحمه الله يكره الذهاب إلى المستشفيات وتناول الأدوية، حيث كان يُرقّي نفسه بالقرآن الكريم والأدعية. وكان يحب الحلوى والفواكه والتطيّب بالبخور والعود والمسك والعنبر. ومن النوادر التي شهدها الشيخ الحمصي أنه كان ذات مرة عضواً في لجنة ﻻختيار مؤذنين جُدد، فوجّه أحد أعضاء اللجنة سؤالاً للشاب المتقدم للوظيفة: [مَن هو أول مؤذن في الإسلام؟] .. فأجاب الشاب حسب معرفته وبساطته: [الشيخ الحمصي!]. فضحك الجميع، وتدخّل الشيخ الحمصي لدى اللجنة، وتم قبول الشاب، وقام الشيخ الحمصي شخصيا بتعليمه، وطلب منه ملازمته إلى أن يتعلم الأذان وإمامة المصلّين! وفي وقتين مختلفين، رفض الشيخ الحمصي أداء مناسك الحج على نفقة وزارة الأوقاف، اتّقاءً لما قال إنها شبهة الحرام، وكان يحجّ على نفقته الخاصة.
…
امتاز الشيخ الحمصي يرحمه الله، بصوت جميل جداً وأداء أجمل. وكانت تسابيحه التي يترنم بها في أذكار الأسحار تتصعّد مع سفوح عجلون والقرى المحيطة، وكنا نصيخ السمح لصوته الرخيم، وهو يصدح بذِكر الله والصلاة على رسوله الكريم. ولم يكن الشيخ الحمصي يعاني من أي أمراض مزمنة، ورفض في آخر أيامه الذهاب إلى المستشفى، وتوفي في منزله. وكانت له أمنية غالية وخاصة جداً، وهي أن يتم افتتاح مسجد عجلون الكبير من جديد والصلاة فيه، بعد أن تم إغلاقه لفتره طويلة نتيجة أعمال الصيانة؛ وكانت مشيئة الله أن تم افتتاح المسجد قبل وفاته بأسبوعين، حيث كانت جنازته أول جنازة يُصلّى عليها في المسجد بعد الافتتاح، بتاريخ 25/8/2010م، عن ثمانٍ وثمانين سنة. وقد عقّب الشيخ المؤذّن/ محمد إبراهيم محمد الحمصي/ أبو إبراهيم يرحمه الله، كريمتين فاضلتين، وستة من الأكارم، لكن الله امتحنه قبل وفاته بخمس سنوات بفقدان ابنه الأكبر إبراهيم (وإبراهيم/ يرحمه الله/ كان ابن صفي في مدرسة عجلون الثانوية، وكان غايةً في الأدب والأخلاق) .. فرحم الله الشيخ محمد الحمصي وأحسن مثواه، وجزاه الله عنّا خير الجزاء، وحفظ الله ذرّيته الطيبة إلى يوم الدين!
.
بقلم القضاة د.خالد.سلمان
1 تعليق
محمود قطيشات
جزاك الله خيرا على هذا المقال