المولد النبوي ميلاد انسانية جديدة
د. إنصاف المومني
صفحة السماء الناصعة النقاء ترسم قبلة حب وسلام على صدر ثرى مكة الشامخة في أعظم محطات مفصلية مرحلية في مسيرة التاريخ الإنساني الحضاري؛ لتزف البشرى بميلاد رجل بأمة, وميلاد إنسانية جديدة مولد سيد الخلق عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
إن ذكرى المولد النبوي تُلقي في غور نفوسنا بريق إشراقات وإضاءات نورانية، وباقات سعادة يتجدد فيها الأمل، والنور، والإيجابية، والتفاؤل، وتكسر طوق الألم الذي يلفنا، ونُقصي ثقافة اليأس، والبؤس، والهزيمة الداخلية؛ فتتألق نفوسنا؛ لتضيء لنا عتمة الدرب بشموع الأمل والنور من لهيب الصبر الجميل، ففن صناعة السعادة من قلب الألم هي الحياة، ومن حنايا وتفاصيل الحدث الكوني العظيم نستنطق اشراقات وأنوار يمكن أن تختزل أبرز معالمها بالآتي:-
يعلن لنا خطاب السماء إن أبرز أولويات بناء الإنسان الفاعل للعمران والشهود الحضاري هو حضور القدوة “لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليَومَ الآخر”، لذا كان لزاماً على الأقلام والهمم الهادفة الرسالية أن تنقل لنا النموذج الأمثل (القدوة الحسنة) إلى ميدان العمل والتطبيق فحينما سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلقه صلى الله عليه وسلم قالت: “كان خلقه القرآن” صحيح مسلم، فحاجتنا ماسة لقدوات عاملة نابضة بالفاعلية؛ لتضييق الفجوة بين المثال والواقع؛ لأن القدوات العملية هي من تُفعل “النموذج المرتجى” في أذهان وواقع الأجيال الصاعدة والحاضرة وهي من تُقصي القدوات البائسة والعابثة، والقدوات غير المؤهلة لملء الفراغ الذي شغلته، وحيث أن هذه القدوات كما هو معلوم في علم الاجتماع الإنساني لا تُفسد الحاضر فقط بل تُفسد علينا الآتي وتستحوذ عليه وفق استراتيجيتها وعبثيتها المغرضة، ومما تجدر الإشارة إليه: أن النماذج الإيجابية للقدوات تُعد دعوة مفتوحة لجمال روعة الإسلام للمعمورة. وقد أعد مايكل هارت سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من أعظم الشخصيات التي أثرت في التاريخ بل احتل الصدارة من بين مئة رجل من عُظماء التاريخ الإنساني.
إن النهضة الأخلاقية المستندة إلى المرجعية العقدية التي جذّر لها نبي الرحمة والتي اختزلت الزمان والمكان لتقودنا إلى أعظم شهود وإبداع حضاري يجب أن تُفعل، فلم يكن ذلك بدعاً من القول فلقد جاء خطاب السماء (الوسام الرباني) لنبي الرحمة بالثناء على خلقه “وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ” ومما يدعو للتأمل أن خطاب السماء لم يثنى على صدق وجدانيته وطول تدبره وخشوع قلبه بالقدر الذي اثنى على خُلقه؛ لإن أي شهود حضاري لا بد أن يقوم عل نهضة ومرجعية أخلاقية، وبالمقابل أي سقوط وتداعي حضاري أبرز ملامحه الانهيار الأخلاقي والروحي
فمن نافلة القول أن الحرص على بناء المنظومة العملية القيمية الإيمانية الأخلاقية بذوقها الجمالي المتفرد هي من أولويات القدوة والاقتداء، ولعل من أهم القيم الخالدة التي يجب استحضارها إلى قلب المعاصرة وتفعيلها لضآلة وهشاشة حضورها على الساحة المعاصرة. قيم: الحب، السلام، الجمال، الحرية، الإبداع، الاتقان، الاحسان … ولعل مساحة المقالة لا تسمح بالخوض في جماليات تفاصيلها وروائعها فما هي إلا نافذة على هذا الفضاء الرحب المتألق المنفرد……
فالحب هذا المفهوم الآسر الباهر كان حاضراً في تفاصيل السيرة العطرة، والراصد لحركتها يرى رأي العين حضور قيمة الحب في تفاصيل سيرته العذبة ابتداءً بحب الله عز وجل الذي يُعد السقف الأعلى لمساحات الحب الأخرى، بل ويُصوب مسارها، ومروراً بالحب الزواجي في حياة سيد الخلق، وبحب الصحابة الكرام رضوان الله عليهم بل وحب الآخر (غير المسلم)….. وانتهاءً بحب عناصر الكون الساكنة يستنطق منها وجدانيات راقدة صامته ” إن أُحُدا جبل يحبنا ونحبه……”.رواه البخاري
فالحب فعل وعمل وتطبيق لا قول وتنظير وإلا تحّول إلى حب بائس عابث لا روح فيه ولا حياة؛ بل يُعيد حركة الحياة وفاعليتها.
تُعد الحرية السقف الأعلى للإبداع لذا نجد أن التوحيد والذي يُعد عصب العقيدة هي أول وأهم ركائز الحرية لانطلاق الطاقات والمواهب الإبداعية، فعبادة الواحد الأحد تخلصنا من عبادة الأوثان والمعشوقات الكبيرة والصغيرة البشرية والحجرية “تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض”. رواه البخاري
والجمال هو من يرفد الحياة بأسرار الخلود والبقاء فنبي الرحمة يدعو لتوسيع فضاء الرؤية الجمالية بل ويعُدها مساراً مفتوحاً لاستنطاقها من مختلف مناحي الحياة “إن الله جميل يحب الجمال” فلقد التصقت قيمة الجمال الخالدة بطلاقته التعبيرية والفكرية، وبعذوبة مشاعره، وبجمال مخبره وظاهره …. عليه أفضل الصلاة والتسليم.
إن المنظومة القيمية السالفة الذكر والتي استعرضنا بعضاً من معالمها لم تكن في عصر النقاء الإسلامي عصر النبع الصافي تُستهلك بالمواعظ والدروس بل كان خطاب السماء يتنزل وجنود الله في الأرض تتلقى بالقبول والعمل والتطبيق، فلم تكن مسافات شاسعة بين التنزيل والتطبيق … بل إن قصر الفاصل الزمني بينهما ألقى بظلال الفاعلية والتألق في حركة الحياة وحرارة وجدانيتها؛ لأن الثمرة المرجوة والهدف المنشود لهذه القيم إشعال فتيلة الإبداع الحضاري لريادة الإنسانية، وأستاذيتها ليعم السلام والأمن والاستقرار الاقتصادي والحضاري. وذلك يفرض علينا الخروج من قوقعة التنضير والشكليات إلى آفاق العمل والبناء لأن قيمة الحب إن لم يتناغم معها الفعل تحول إلى حب بائس، أما قيمة الحرية إن لم تُضبط حركتها وحدودها تحولت إلى حرية عابثة ….. وهكذا، وهنا لا بد أن تتعاضد الجهود الفردية والمؤسسية الإصلاحية لإعداد شخصية المسلم المعاصر باطارها المتوازن وذلك يحتاج منا إلى مراجعة شاملة، ووقفة مُتأنية للتجديد في التفسير، وإعادة النظر في خطابنا الفقهي خاصة والإسلامي عامة.
إن اختيار العليم الحكيم يوم اللقاء والانتقال إلى الرفيق الأعلى لسيد الخلق عليه أفضل الصلاة والتسليم هو اليوم ذاته الأثنين الثاني عشر من ربيع الأول الذي ولد فيه. يحمل بين طياته رسائل ضمنية منها: أن رحلة الحياة تُختزل بالمولد والرحيل وبينهما تفاصيل وجزئيات وأهداف عارضة يجب أن لا تستنفذ طاقاتنا. كما أن الفناء والرحيل سنة اجتماعية مرتبطة بلحظات القدوم للحياة لتشكل ذلك لنا منبه لاستعادة الهمة والنشاط واستحضار عظمة المسؤولية والمساءلة “وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ”، إضافة إلى أن ألم الرحيل والفراق سيما لأعظم خلق الله يتحول إلى (ألم فعّال) لنبحث عن فضاءات من العوض الرباني بعد فاجعة الرحيل “وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ ….”.
فسلام الله وصلاته على نبي الحب والسلام وعلى آله وصحبه أجمعين، والله وحده نسأل أن يجمعنا به في الفردوس الأعلى وأحبابنا تحت وسام المتحابين في الله ولله.