على مدار العقود الماضية، ظل الشرق الأوسط ساحة لصراعات سياسية وأمنية متشابكة، ارتبطت بشكل رئيسي بالقضية الفلسطينية واحتلال الأراضي العربية، وبينما سعت قوى دولية وإقليمية إلى فرض سيناريوهات جديدة تُعيد رسم خرائط المنطقة، كان من أبرز هذه المخططات الدفع باتجاه تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، كحل نهائي للصراع، إلا أن مصر، بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي، بما تمثله من ثقل سياسي وجغرافي وتاريخي، نجحت في بناء حائط صد سياسي منيع يرفض مثل هذه الطروحات، مؤكدة أن المشكلة الحقيقية التي تعوق الاستقرار في الشرق الأوسط ليست في السكان الأصليين الذين يتعرضون للتهجير، بل في استمرار الاحتلال الإسرائيلي الذي يشكل جذور الأزمة منذ أكثر من قرن.
الموقف المصري الرافض لفكرة التهجير لم يكن وليد اللحظة، بل هو امتداد لرؤية ثابتة تبنتها القاهرة منذ بدايات الصراع العربي الإسرائيلي، فمنذ نكبة 1948، ثم نكسة 1967، وبعدها حرب أكتوبر 1973، وحتى توقيع اتفاقيات السلام، كان المبدأ الذي استندت إليه السياسة المصرية هو ضرورة حل القضية الفلسطينية من جذورها عبر إنهاء الاحتلال، وليس من خلال حلول مؤقتة تفرض واقعًا جديدًا على حساب الفلسطينيين ودول الجوار، وفي السنوات الأخيرة، ومع تصاعد الأوضاع في قطاع غزة، تجددت المحاولات الإسرائيلية والأمريكية لطرح سيناريوهات التهجير كخيار قائم، إلا أن القاهرة ومعها أشقائها تصدت لهذه الطروحات عبر تحركات دبلوماسية مكثفة، وحراك سياسي وإعلامي واسع، عزز من الرواية المصرية أمام المجتمع الدولي.
النجاح المصري في بناء حائط الصد أمام هذه المخططات لم يكن مجرد موقف سياسي أو تصريحات رسمية، بل كان نتيجة لاستراتيجية متكاملة اعتمدت على عدة أدوات، في مقدمتها التحرك الدبلوماسي النشط الذي نجح في إيصال رسالة واضحة إلى القوى الكبرى بأن أي محاولات لتهجير الفلسطينيين مرفوضة جملة وتفصيلًا.
وقد برز هذا الدور في اللقاءات التي عقدها المسؤولون المصريون مع نظرائهم في الولايات المتحدة وأوروبا، حيث أكدت القاهرة أن أي تغييرات ديموجرافية قسرية لن تؤدي إلا إلى مزيد من الفوضى، وستفتح الباب أمام موجة جديدة من العنف وعدم الاستقرار، كما سعت مصر إلى توحيد الموقف العربي ضد مخططات التهجير، عبر التنسيق المستمر مع الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، إضافة إلى تعزيز التعاون مع دول الجوار، ما أسهم في تشكيل جبهة عربية موحدة تواجه الضغوط الدولية.
لم تقتصر المواجهة المصرية لمخططات التهجير على الجانب السياسي فقط، بل امتدت إلى الجانب الإعلامي، حيث أدركت القاهرة مبكرًا أن الإعلام يمثل ساحة معركة حقيقية في الترويج للروايات السياسية، ومن هذا المنطلق، حرصت وسائل الإعلام المصرية على كشف المخططات الإسرائيلية والأمريكية، وتسليط الضوء على خطورة التهجير القسري على الأمن الإقليمي، كما وظفت مصر دبلوماسيتها الإعلامية بشكل ذكي، عبر استضافة خبراء ومفكرين دوليين يدعمون السردية القائلة بأن الاحتلال الإسرائيلي هو العقبة الحقيقية أمام السلام، وليس الفلسطينيين الذين يُراد تهجيرهم قسرًا.
إضافة إلى ذلك، لعبت التحركات الميدانية دورًا محوريًا في دعم الموقف المصري، حيث فتحت القاهرة معبر رفح لإدخال المساعدات الإنسانية، في خطوة أكدت من خلالها رفضها القاطع لأي محاولات لإفراغ غزة من سكانها، كما عززت من وجودها السياسي في الملف الفلسطيني عبر الوساطة المستمرة بين الفصائل، ما جعلها الطرف الأكثر تأثيرًا في تحديد مسار الأحداث، وفرض رؤيتها على المجتمع الدولي.
لكن يبقى السؤال: كيف نجحت مصر في بناء حائط الصد السياسي رافض لفكرة التهجير، وكذلك بناء رواية مصرية عربية مفادها أن الاحتلال منذ ما يزيد على قرن هو المشكلة الرئيسية لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، هذه الأسئلة وغيرها سنناقشها مع الخبراء في تحقيقنا، لكشف أبعاد هذه المواجهة السياسية الشرسة التي تقودها مصر لحماية الحقوق العربية وضمان عدم فرض حلول قسرية لا تخدم سوى الاحتلال.
جدار سياسي
في البداية، قال د. أحمد ميزاب، الخبير الجزائري في الشؤون الاستراتيجية الدولية ، إن مصر نجحت في بناء جدار سياسي واستراتيجي قوي ضد أي محاولات لتهجير الفلسطينيين، خاصة في قطاع غزة، مشيراً إلى أن هذا النجاح استند إلى مزيج من التحركات الدبلوماسية والإجراءات الميدانية والضغط السياسي، مما جعلها لاعباً رئيسياً في إعادة توجيه الخطاب الإقليمي والدولي.
وأضاف أن هناك مجموعة من المؤشرات التي تعكس هذا النجاح، موضحاً أن أولها هو الموقف المصري الثابت ضد مسألة التهجير، حيث تصدت القاهرة منذ تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة لأي محاولة لإجبار الفلسطينيين على مغادرة أراضيهم، مؤكداً أن مصر رفضت بشكل واضح أي خطط تقترح نقل الفلسطينيين إلى سيناء، مشدداً على أن القضية ليست إنسانية بل سياسية، وأن الاحتلال هو المشكلة الأساسية.
وأشار إلى أن الرئيس عبدالفتاح السيسي شدد في لقاءاته مع قادة العالم على أن التهجير ليس حلاً، بل يكرس الاحتلال ويزعزع الاستقرار الإقليمي، لافتاً إلى أن الموقف المصري ظل ثابتاً حتى في التعامل مع الإدارة الأمريكية الجديدة، حيث مرت الرسائل المصرية بقوة ووضوح، موضحاً أن هذه الرسائل حملت مؤشرات تعكس طبيعة التحولات والانعكاسات في حال تمادي بعض الأطراف في استخدام ورقة التهجير، والتي قد تؤدي إلى اختلال استقرار منطقة الشرق الأوسط.
وتابع أن المؤشر الثاني يتمثل في التحركات الدبلوماسية التي قادتها مصر لتعزيز الرواية العربية، مشيراً إلى أن القاهرة لعبت دوراً محورياً في حشد دعم عربي موحد ضد مشروع التهجير، حيث عقدت اجتماعات مع السعودية، الإمارات، الأردن وقطر، مؤكداً أنها دفعت باتجاه رفض أي مشروع لإعادة توطين الفلسطينيين خارج وطنهم، باعتبار أن ذلك يدخل في إطار تصفية القضية الفلسطينية ومصادرة حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته.
وأوضح أن مصر نجحت في تحويل القضية من ملف إنساني إلى ملف استراتيجي، مشدداً على أن الحل الجذري يتمثل في إنهاء الاحتلال وليس التعامل مع نتائجه، مضيفاً أن القاهرة استخدمت علاقاتها القوية مع الولايات المتحدة وأوروبا للضغط من أجل إعادة توجيه السياسات الغربية نحو دعم حل الدولتين بدلاً من فرض حلول جزئية، مؤكداً أن الإدارة الأمريكية الجديدة تحاول خلط الأوراق في سياق التماهي مع توجهات الاحتلال الإسرائيلي.
وأشار إلى أن المؤشر الثالث هو الإجراءات الميدانية والأمنية، موضحاً أن مصر عززت وجود قواتها الأمنية على الحدود مع غزة، ما بعث برسالة واضحة بأن سيناء ليست ولن تكون خياراً للتهجير، مؤكداً أن القاهرة رفعت مستويات التنسيق الأمني مع الأردن لمنع أي محاولات لفرض واقع ديموغرافي جديد في المنطقة، مشدداً على أن هناك وعياً بطبيعة اللعبة وخلفياتها، مضيفاً أن مصر استمرت في دعم جهود إعادة إعمار غزة، مؤكداً التزامها بعدم السماح بأي تغيير قسري في التركيبة السكانية، مشيراً إلى أن ذلك يعد مؤشراً أساسياً ومهماً على موقفها الثابت.
وأوضح أن المؤشر الرابع يتمثل في بناء سردية استراتيجية حول الاستقرار في الشرق الأوسط، مشيراً إلى أن مصر ربطت بين استمرار الاحتلال والفوضى في المنطقة، مؤكداً أن غياب الدولة الفلسطينية هو السبب الرئيسي لانعدام الاستقرار، مضيفاً أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو الأساس لمعالجة الأزمات المتكررة.
وتابع أن مصر استثمرت في الإعلام العربي والدولي لتوجيه الخطاب العام نحو تحميل الاحتلال مسؤولية الأزمات، مؤكداً أنها أبرزت موقفها عبر منصات مختلفة، مشدداً على أن محاولة تصفية القضية الفلسطينية لن تؤدي إلى الاستقرار بل إلى مزيد من الصراعات، لافتاً إلى أن مسألة التهجير ليست حلاً جذرياً، بل مجرد مسكنات مؤقتة.
وأضاف أنه في ظل النشاط الدبلوماسي المكثف لمصر والاجتماعات التي عقدتها مع الأردن والدول الخليجية، فإنه من المتوقع أن تواصل القاهرة الضغط السياسي لمنع فرض أي حلول على الفلسطينيين، مشيراً إلى احتمالات عودة بعض القوى الدولية لممارسة ضغوط لإيجاد بدائل تتماشى مع الرؤية الأمريكية والإسرائيلية، مؤكداً أن مصر عملت على إعداد خطة طرحتها في القمة العربية.
وأكد أن القاهرة ستواصل العمل مع الدول العربية لضمان وحدة الموقف الإقليمي، مشدداً على أهمية دعم السلطة الفلسطينية وإعادة إعمار غزة، موضحاً أن التحركات العسكرية والأمنية ستظل عاملاً أساسياً، حيث ستعمل مصر على تأمين حدودها لمواجهة أي تحركات تسعى لإحداث تغييرات ديموغرافية قسرية قد يحاول الاحتلال فرضها.
وختم مؤكداً أن مصر أحدثت حالة فارقة في المعادلة، وأعادت ضبط التوازنات، موضحاً أن الكرة الآن في ملعب الخطة المصرية والدعم العربي لها، مشدداً على ضرورة ضمان بقاء القضية الفلسطينية على الساحة الدولية، والعمل على تعزيز كتلة الضغط من أجل استعادة حقوق الشعب الفلسطيني، خاصة في مواجهة مخططات التهجير القسري، التي ستكون لها انعكاسات خطيرة على استقرار المنطقة.
البديل العربي
من جانبه، قال الدكتور عمر الرداد، الخبير الأمني والاستراتيجي، والعميد السابق في المخابرات العامة الأردنية، إن الثقة الدولية بمقاربات والتزام القيادتين المصرية والأردنية بتعهداتهما ومواقفهما السياسية لدى المجتمع الدولي، وتحديدًا الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بالإضافة إلى العديد من الدول الأخرى، بما فيها الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، كانت واضحة وجلية.
وأضاف الرداد أن هذه الثقة تستند إلى مواقف الرأي العام المؤيد للقيادتين في الدولتين الشقيقتين، جمهورية مصر العربية والمملكة الأردنية الهاشمية، موضحًا أنه لا يمكن إغفال أن هذه المواقف لم تقتصر على القيادة السياسية ممثلة بالرئيس عبد الفتاح السيسي وجلالة الملك عبد الله الثاني، بل جاءت أيضًا من خلال المجالس النيابية، ومؤسسات المجتمع المدني، ومختلف مكونات الرأي العام في البلدين، والتي دعمت مواقف القيادتين.
وأشار الرداد إلى أن هذا الالتزام السياسي والثقة الدولية ساهما بشكل كبير في اللقاءات والاتصالات التي أجراها الرئيس السيسي، سواء مع رؤساء الدول أو الشخصيات والبرلمانات الأوروبية والأمريكية والدولية التي زارت القاهرة على مدى سنة ونصف من الأزمة، كما أوضح أن الأمر نفسه ينطبق على العاهل الأردني، سواء خلال زيارته للولايات المتحدة أو لقاءاته مع الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي، بالإضافة إلى اجتماعاته مع العديد من قادة الدول والبرلمانات العالمية.
وأكد الرداد أن هذه اللقاءات أسهمت في تقديم رواية جديدة تختلف بشكل كبير عن الرواية الإسرائيلية، لافتًا إلى أن الأردن، الذي يُعد معنيًا بشكل مباشر بالضفة الغربية، لديه مخاوف حقيقية من خطط التهجير التي سبق أن طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، كما أشار إلى أن القيادة المصرية تمسكت بموقفها منذ بداية الحرب على غزة، حيث منعت التهجير القسري، وقدمت نموذجًا يُحتذى به في إدارة الأزمات، من خلال فتح معبر رفح وفق حسابات أمنية مصرية، لإدخال شاحنات الإغاثة ومواد إعادة الإعمار، مع السماح بدخول الغزيين الذين يحتاجون إلى العلاج، لكن وفق ضوابط دقيقة لمنع أي تهجير قسري.
وتابع الرداد أن هذا الموقف المشترك والصارم بين مصر والأردن، انعكس أيضًا من خلال التنسيق المباشر بين قيادتي البلدين، مشيرًا إلى أن زيارة سمو الأمير الحسين بن عبد الله، ولي العهد الأردني، إلى مصر ولقائه مع الرئيس السيسي، جاءت في إطار إطلاع القيادة المصرية على نتائج مباحثات العاهل الأردني مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، والتي أثارت جدلًا واسعًا بسبب الترجمة والتشكيك في مواقف الملك عبد الله الثاني، قبل أن يأتي توضيح من البيت الأبيض يؤكد أن الملك رفض التهجير والتوطين وطالب بوقف الحرب.
وأوضح الرداد أن القمة التشاورية التي عقدت في السعودية، رغم كونها غير رسمية، إلا أنها تركز على مناقشة البديل المصري، الذي يُنظر إليه باعتباره البديل العربي للمبادرة الأمريكية، وأضاف أن المواقف العربية، بقيادة مصر والأردن، حظيت بدعم كبير من الدول الخليجية، مما يعزز من فرص نجاح هذه الخطة.
وأشار الرداد إلى أن الخطة المصرية تركز على إعادة إعمار غزة بوجود سكانها داخل القطاع، مع إقامة مخيمات مناسبة، والتركيز على وقف الحرب، والسماح بإدخال المساعدات الإنسانية، وأوضح أن المرحلة الثانية من الخطة تتعلق بترتيبات وقف إطلاق النار، والتعامل مع مستقبل قطاع غزة بعد الحرب، مؤكداً أن الدور العربي في هذه الخطة، وخاصة من قبل مصر وقطر، يتمثل في التأثير على حركة حماس من خلال اتصالات مباشرة، مشيرًا إلى أن الوساطة المصرية والقطرية، بدعم أمريكي، لعبت دورًا رئيسيًا في التوصل إلى الهدنة، وأضاف أن المفاوضات الجارية تشمل قضايا تتعلق بجهود الإغاثة، كعدد الشاحنات ونوعية البضائع، بالإضافة إلى قضايا أخرى مثل تبادل الأسرى والجثث.
وتابع الرداد أن أحد أبرز المحاور المطروحة في الخطة المصرية هو دور السلطة الفلسطينية في إدارة غزة بعد الحرب، لافتًا إلى أن هناك مقترحات تتعلق بحكم تكنوقراط أو شخصيات مدنية من داخل القطاع، لكنه شدد على أن السلطة الفلسطينية ستظل جزءًا أساسيًا من الحل، باعتبارها تعبر عن الهوية الفلسطينية وتمثل نواة الدولة الفلسطينية.
وأشار الرداد إلى أن ما يميز هذه المبادرة هو أنها تأتي لأول مرة بمبادرة عربية استباقية، بدلاً من أن تكون مجرد رد فعل على مبادرات دولية أو إقليمية، مشددًا على أن الدور المصري في هذه الأزمة يعكس قيادة سياسية فعالة، تحظى بدعم عربي واسع، وخاصة من قبل السعودية والأردن.
وأكد الرداد أن مصر والأردن تمتلكان الإمكانيات السياسية والدبلوماسية التي ساعدت في إقناع العديد من الدول، مثل الاتحاد الأوروبي وكندا وروسيا والصين، بالرواية العربية التي تناقض السردية الإسرائيلية المتطرفة، وأضاف أن هناك إجماعًا دوليًا متزايدًا على ضرورة حل الدولتين، باعتباره السبيل الوحيد لإنهاء النزاع وضمان الاستقرار.
الأمن القومي
من جانب آخر، يرى اللواء الركن محمد الصمادي، الخبير العسكري الأردني، إن نجاح مصر والأردن في بناء حاجز سياسي يرفض فكرة التهجير ويعزز الرواية العربية، يؤكد أن الاحتلال هو السبب الرئيسي لعدم الاستقرار في المنطقة، وأضاف أن الاحتلال الإسرائيلي يمثل التهديد الوجودي الحقيقي، ليس فقط لدول الطوق، بل لجميع الدول العربية.
وأوضح الصمادي أن القضية الفلسطينية تظل بؤرة الصراع في المنطقة، حيث انعكست تداعياتها بشكل مباشر على الأمن القومي المصري والأردني، مؤكداً أن مصر والأردن تحملتا تكاليف باهظة في التعامل مع هذه القضية، وأشار إلى أن الغرب يتعامل مع الفلسطينيين كسكان وليس كمواطنين، في ظل وجود مشروع جديد يستهدف مستقبل القضية الفلسطينية.
وتابع قائلاً إن كافة المؤشرات تدل على مخاطر كبيرة قادمة، محذراً من أن المنطقة تواجه استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى تعزيز النفوذ الصهيوني، إذا لم يتدارك العرب الموقف، واستطرد مؤكداً أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لم يحقق أهدافه، لكنه مستمر في السعي وراء أحلامه، فهو قد لا يعلم ماذا يريد، لكنه يدرك تماماً ما لا يريد.
وحول البيئة الاستراتيجية والدولية، أوضح الصمادي أن إسرائيل تحظى بدعم واسع، وأن القوة والاقتصاد هما المحددان الأساسيان في السياسة العالمية، وأشار إلى أن الولايات المتحدة وحكومة اليمين الإسرائيلي تحاولان إقناع العرب بأن التهجير أمر محتوم، وتسعيان إلى فرض صفقة لحل القضية على حساب الفلسطينيين ودول الجوار، بينما يجب أن يكون الموقف العربي رفضاً قاطعاً لأي مشروع تهجير.
وأكد الصمادي أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كشف الوجه الحقيقي للغرب، إذ يتعامل مع الآخرين باستعلاء، متبنياً نهجاً استبدادياً في فرض سياساته، وموضحاً أن فكرة “الهجرة الطوعية” التي يروج لها ليست سوى جريمة حرب مكتملة الأركان، تهدف إلى تهجير أصحاب الأرض وإضفاء طابع اقتصادي على القضية الفلسطينية بدلاً من حلها سياسياً.
وأضاف أن الإدارة الأمريكية واليمين الإسرائيلي يسعيان إلى تقويض أي فرصة لحل الدولتين، مشيراً إلى أن هناك إرادة لدى الحكومة الإسرائيلية للقضاء على هذا الحل تماماً، كما أن هناك توجهاً أمريكياً غير معلن لتصفية القضية الفلسطينية نهائياً على حساب دول الجوار، معتبراً أن الأردن سيكون من أكثر الدول المتأثرة بهذه السياسة.
وتابع الصمادي أن التصعيد في الضفة الغربية يعد أكثر خطورة من عمليات التهجير في غزة، محذراً من أن فشل تهجير الفلسطينيين من القطاع قد يدفع ترامب إلى الاعتراف بضم الضفة الغربية لإسرائيل، مما سيؤدي إلى إنهاء أي أمل لحل الدولتين وطمس الهوية الفلسطينية.
وأكد أن الأمن القومي الأردني مرتبط ببقاء الفلسطينيين على أرضهم في الضفة الغربية، كما أن الأمن القومي المصري مرتبط ببقاء الفلسطينيين في غزة، مما يستوجب رفضاً قاطعاً لعمليات التهجير. وأضاف أن المنطقة تفتقر إلى نظام إقليمي قادر على مواجهة هذه التحديات، مشيراً إلى أن سيناريوهات التهجير غير قانونية ومخالفة لكل الأعراف الدولية.
وأوضح أن الموقف العربي أصبح مضطراً لتبني قضية غزة، نظراً لارتباطها المباشر بالأمن القومي للمنطقة، مؤكداً أن الدعم الغربي لحكومة اليمين المتطرف يستوجب موقفاً عربياً قوياً ومشتركاً لمواجهته. واستطرد قائلاً إن الحلول الدبلوماسية الناعمة قد تؤدي إلى الخضوع والاستسلام بدلاً من ردع السياسات الإسرائيلية التوسعية.
وأشار الصمادي إلى أن الحراك الدبلوماسي المصري الأردني يشكل نواة لموقف عربي أوسع، قد يجبر الإدارة الأمريكية على تعديل سياساتها، مضيفاً أن هذا الحراك يحتاج إلى مزيد من التشدد لردع أصوات اليمين المتطرف الإسرائيلي.
وأكد أن القاهرة وعمان تمتلكان العديد من أوراق الضغط التي يمكن استخدامها ضد حكومة اليمين، موضحاً أن حلم إسرائيل بتصفية القضية الفلسطينية لن يتحقق طالما ظلت مصر والأردن متمسكتين بمواقفهما الصلبة والعادلة في مواجهة المخططات الصهيونية.
وختم الصمادي بالتأكيد على ضرورة دعم مصر والأردن لتقليل الاعتماد على المساعدات الأمريكية، موضحاً أن التحرر من هذه الهيمنة يعد خطوة أساسية في مواجهة الغطرسة الغربية وحماية المصالح العربية.
المواقف الثابتة
ويرى نعمان توفيق العابد، الكاتب السياسي والباحث في العلاقات الدولية، أن الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية والعربية منذ بدايته كان يواجه موقفًا مصريًا ثابتًا في السياسة تجاه هذه القضية، مضيفاً أن أولى هذه الثوابت تمثلت في مساعدة الشعب الفلسطيني على الصمود في وجه هذا العدوان والاحتلال، كما دعمت مصر القيادة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية وجميع فصائل العمل الوطني والإسلامي الفلسطيني في التصدي للسياسات الإسرائيلية وحتى الغربية التي تستهدف وجود الشعب الفلسطيني وقضيته.
وأوضح أن الثابت الآخر في السياسة المصرية تجاه القضية الفلسطينية كان منع تهجير الشعب الفلسطيني إلى خارج وطنه، مشيرًا إلى أن هذا الموقف كان واضحًا منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي، مؤكداً أن مصر لم تتوانَ عن الوقوف إلى جانب الحقوق الفلسطينية، سواء خلال الحروب أو خلال فترات السلام، كما تصدت دائمًا لأي محاولة من قبل كيان الاحتلال الإسرائيلي أو الدول الداعمة له لشطب القضية الفلسطينية، مشددًا على أن القضية الفلسطينية كانت وما زالت حاضرة في السياسة المصرية.
وتابع قائلًا إن العدوان الإسرائيلي المستمر منذ 15 شهرًا والذي تخللته عمليات إبادة جماعية، قوبل بموقف مصري صارم، حيث تصدت مصر لكل هذه الاعتداءات عبر دبلوماسيتها النشطة التي ساهمت في جهود وقف العدوان، كما سخرت علاقاتها الدولية والإقليمية لوقف الحرب والتصدي لهذه الإبادة الجماعية التي تمارسها دولة الاحتلال، مشيراً إلى أن الدبلوماسية المصرية كانت نشطة على مستوى العالم، سواء في الاجتماعات الإقليمية أو الدولية، حيث ركزت على وقف العدوان وإنهاء الحرب، ومن ثم البحث في العملية السياسية والمفاوضات وما يسمى بمرحلة اليوم التالي لانتهاء العدوان.
وأوضح أن مصر كانت خلال العدوان حريصة على عدم السماح بتهجير الشعب الفلسطيني، حيث تصدت بقوة لهذه السياسة الصهيونية التي كانت تهدف إلى تحقيق أمرين رئيسيين، أولهما إبادة أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، وثانيهما التضييق عليهم في قطاع غزة والضفة الغربية لدفعهم نحو الهجرة القسرية خارج وطنهم.
وأكد أن مصر كانت متنبهة منذ البداية لهذه الألاعيب الإسرائيلية ولهذه الأهداف العدوانية، حيث أوضحت موقفها من خلال دبلوماسيتها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ومن خلال علاقاتها الدبلوماسية سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، مستغلة علاقاتها الجيدة مع مختلف دول العالم لمنع تهجير الشعب الفلسطيني وإحباط أهداف كيان الاحتلال الإسرائيلي.
وأضاف أنه عندما طرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فكرة الاستيلاء على قطاع غزة أو شراءه أو تهجير الشعب الفلسطيني خارجه، كان الرد المصري الأسرع والأقوى، حيث أعلن فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي رفضه القاطع لهذه المخططات، وأكد في العديد من خطاباته ومؤتمراته الصحفية ولقاءاته مع القادة العرب والأوروبيين والغربيين أن مصر لن تسمح أبدًا بتهجير الشعب الفلسطيني.
وأشار إلى أن مصر سارعت إلى وضع خطط للتصدي لهذه المخططات، حيث طرحت خطة لإعادة الإعمار بهدف تثبيت الشعب الفلسطيني في أرضه، وعدم استغلال ما طرحه ترامب وآخرون بشأن عدم قابلية قطاع غزة للحياة.
وأوضح أن الخطة المصرية كانت واضحة ومفصلة وشاملة، حيث ركزت على التثبيت الإنساني للفلسطينيين وإعادة الإعمار، مشيرًا إلى أن هذه الخطة لاقت ترحيبًا فلسطينيًا واسعًا، سواء من سكان قطاع غزة أو من القيادة الفلسطينية والفصائل الفلسطينية، كما حظيت بتأييد الدول الإقليمية والعربية، وحتى بعض الدول الغربية التي وقفت ضد التهجير وسياسات ترامب.
وأكد أن هذا التأييد كان واضحًا في اجتماع الرياض، وكذلك في مواقف العديد من الدول الغربية التي رفضت التهجير ووقفت ضد سياسة ترامب.
وأضاف أن الجهود المصرية امتدت إلى قضايا الداخل الفلسطيني، حيث ساهمت القيادة المصرية والدبلوماسية المصرية والأجهزة الأمنية والخارجية المصرية في محاولات إنهاء الانقسام الفلسطيني، مشيرًا إلى أن القاهرة احتضنت العديد من جولات الحوار الفلسطيني وأسهمت في توقيع اتفاقيات بين الفصائل الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية، بما في ذلك فتح وحماس.
وأوضح أن الخلافات الداخلية الفلسطينية ما زالت تشكل عائقًا أمام نجاح الدبلوماسية المصرية في تحقيق أهدافها بشكل كامل، مشيرًا إلى أن وجود موقف فلسطيني موحد كان سيعزز الموقف المصري القائم على تثبيت الشعب الفلسطيني وصموده على أرضه.
وأكد أن المطلوب الآن موقف فلسطيني واضح يدعم الموقف المصري في إعادة الإعمار وإنشاء هيئات لتثبيت الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، إلى جانب موقف عربي مساند من الناحية الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية، مشددًا على أن هذه الجهود بحاجة إلى دعم، خاصة من الدول الخليجية.
وأشار إلى أن الشعب الفلسطيني شعر بأهمية هذه الجهود المصرية، وأدرك من يقف معه في وقت الشدة والحاجة، كما لمس الدور الكبير الذي تلعبه مصر في التصدي لكل المشاريع التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية وتحويل الفلسطينيين إلى مجرد لاجئين، ما قد يؤدي إلى تحميل دول المنطقة مسؤولية هذا التهجير، ويؤثر سلبًا على الأمن القومي المصري.
وأشار إلى أن مصر، رغم أهمية علاقتها بالولايات المتحدة كدولة رئيسية في المنطقة، لم ترضخ لتهديدات إدارة ترامب بشأن قطع المساعدات أو ممارسة الضغوط، حيث تمسكت بموقفها القومي والعربي المساند للشعب الفلسطيني وقضيته، وختم قائلًا: “لقد شعرنا كفلسطينيين بأهمية الموقف المصري، وشعر به شعبنا الفلسطيني، وهو موقف يستحق كل التقدير والاحترام لمصر وشعبها وقيادتها، ونوجه الشكر لمصر، وللرئيس عبد الفتاح السيسي، وللقيادة المصرية، ولكل مفاصل السياسة المصرية، وللشعب المصري الشقيق“.
الرأي العام
ومن جانب آخرى، أكد الإعلامي الفلسطيني مراد السبع أن مصر والأردن على درجة كبيرة من التناغم فيما يخص الأمن القومي العربي، وذلك من خلال التركيز على ضرورة توطين المواطن الفلسطيني وتسكينه بدرجة رئيسية في أرضه، موضحًا أن الحل الوحيد لهذه القضية هو حل الدولتين بين دولة فلسطينية عاصمتها القدس.
وأضاف أن مصر لديه موقف ثابت أعلنه أمام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من خلال لاءاته الثلاث، وهي ثوابته الوطنية التي تتمثل في “لا للتوطين، لا للتهجير، لا للنزوح”، مشيرًا إلى أن الأردن، قبل زيارته إلى ترامب، أجرى مفاوضات ومباحثات مع الرئيس المصري، موضحًا أن هذه المباحثات أفضت إلى أن تذهب الأردن لاختبار موقف الرئيس الأمريكي، ومن ثم الانتقال إلى مرحلة أخرى، وهي مرحلة الضغط العربي والموقف العربي الشامل.
وأوضح أن تشكيل هذا الموقف العربي الموحد ساهم بشكل كبير في أن يتراجع ترامب عن تهديداته أو أطروحاته أو رؤيته بشأن الموقف الأمريكي الإسرائيلي في قطاع غزة، مؤكدًا أن التكرار التاريخي لموقفي الأردن ومصر بأن الحل العادل لهذه القضية يتمثل في حل الدولتين ينسجم مع الرؤية الفلسطينية، وكذلك مع رؤية باقي الدول العربية التي ترفض أي حل للقضية الفلسطينية عبر التهجير أو الترحيل القسري، مشيرًا إلى أن أي محاولة للتهجير ستؤثر وتهدد أمن وسيادة الأردن ومصر بشكل مباشر.
وأكد أن هذين العاملين يشكلان دافعًا رئيسيًا للرفض الأردني والمصري، ويدفعان باتجاه البحث عن حل على المستوى الدولي، موضحًا أن هذا الحل يتمثل في قيام دولة فلسطينية، والتي باتت الآن، بحسب رأيه، في مهب الريح، خاصة بعد إعلان إسرائيل فرض سيادتها على الضفة الغربية، في محاولة للمراوغة أمام أي قانون دولي يسعى لإيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي.
وأكد أن هذا الموقف جعل هناك تغييرات في رؤية ترامب، لكنه وصف هذه التغييرات بأنها إعلامية فقط، مشيرًا إلى أن مخططات التهجير التي تسعى إليها وزارة الخارجية الإسرائيلية ستكون طوعية، عبر روابط للتقديم على الهجرة، بحيث يتم السماح لكل فلسطيني يرغب بالهجرة سواء من غزة أو الضفة بالقيام بذلك على أساس فردي.
التاريخ والجغرافيا
في السياق، أكد سمير جميل الصمادي، سكرتير تحرير وكالة أخبار اليوم للأنباء الأردنية، أن الحديث عن الدور الأردني والمصري في مواجهة الأطماع والأهداف والرواية الإسرائيلية لا يمكن أن يتم دون العودة إلى سياق التاريخ والجغرافيا، مشيرًا إلى أن البلدين الشقيقين تربطهما علاقات أخوية تاريخية متجذرة امتدت لعقود، كما أن قربهما الجغرافي وحدودهما المشتركة مع فلسطين المحتلة جعلهما في مواجهة عسكرية مباشرة ومفتوحة مع دولة الاحتلال في حروب 1948، 1956، 1967، 1968، و1973.
وأضاف الصمادي أن الأردن ومصر، وبحكم موقعهما، كانا الأقرب إلى القضية الفلسطينية، فكان صوتاهما عاليين وموحدين في المحافل الدولية، وقادتهما دبلوماسية عريقة وعتيقة لمواجهة رواية الاحتلال وأدواته، كما كانت تلك الدبلوماسية إلى جانب علاقات البلدين المتميزة مع دول العالم، القوة الناعمة التي استطاعت فضح وحشية الاحتلال وتسليط الضوء على معاناة الشعب الفلسطيني، مؤكدًا أن التحركات الدبلوماسية الأردنية والمصرية كان لها الأثر البالغ في كشف بشاعة جرائم الاحتلال، وإبراز أن إسرائيل كانت وما زالت السبب الرئيسي في دوامة العنف وعدم الاستقرار في المنطقة.
وتابع الصمادي بأن البلدين تميزا على مدى سنوات طويلة بالاعتدال والتوازن والوسطية، مما أكسبهما احترامًا دوليًا وجعلهما محل إصغاء من الدول الكبرى والمؤثرة، واستطاعا من خلال ذلك التأثير في الرأي العام العالمي بشأن القضية الفلسطينية، مشددًا على أن القضية الفلسطينية تمثل مسألة أمن قومي لكل من الأردن ومصر.
وأوضح الصمادي أن البلدين يدركان أن تصفية القضية الفلسطينية سيكون على حسابهما، وهو ما عزز من تنسيقهما العالي ووقوفهما المشترك في مواجهة أي محاولات لتهجير الفلسطينيين وإنهاء حل الدولتين، مشيرًا إلى أن نجاح إسرائيل في التهجير سيعني فتح المجال أمامها للتوسع أكثر في المنطقة على حساب الأردن ومصر، كما أن التهجير سيؤدي إلى تغيير ديموغرافي في البلدين، وزيادة الضغط على مواردهما الطبيعية وبنيتهما التحتية، وإضافة أعباء اقتصادية جديدة، فضلًا عن تأثير ذلك على الأمن القومي من خلال المطالبات المستمرة بحق العودة.
واختتم الصمادي تصريحه بالتأكيد على أن الأردن ومصر هما الحصن المنيع للقضية الفلسطينية، قائلًا: “إن لم تكن الدولتان النصير لفلسطين وشعبها وصوت الحق الذي يصدح من أجلها، فمن يكون لها؟ فهما الأولى والأقدر والأجرأ على ذلك.