كتب / الدكتور منذر حدادين
ويترجل فارس من بلدي ليلقى وجه ربه راضياً مرضيا، راضياً بخدمته الوطن والملك ومرضياً لأن خدمته طاولت محاسنها البلاد والعباد. ولم أكن إلا عاملاً في تنمية البلاد وشاهد عيانٍ على مسيرتها ومجرياتها.
عرفت فارسنا الفقيد مذ تقلد منصب وزير التربية والتعليم شاباً يكبرني ببضع سنوات ويسبقني أميالاً في خدمة البلاد وحماية مصالحها. وكانت تلك السنوات ملأى بالتحديات من كل جانب وقد خرجت لتوها من آلام الاحتراب الداخلي، وكنت، وقد عدت حديثاً من مقامي في الولايات المتحدة، حديث العهد بالعمل الحكومي وبيروقراطيته، ورماني سمو ولي العهد أنذاك تحت سطح البحر لمساعدة المهندس عمر عبدالله دخقان في تنفيذ خطة ثلاثية طموحة لإعادة إصلاح وتطوير وادي الأردن.
وما فارسنا الذي ارتحل في ثاني أيام عيد الفطر المبارك إلا فقيد البلاد دولة المحامي الأستاذ مضر محمد عايش بدران غفر الله له وأسكنه في جوار الصديقين. وأذكر أن جلالة الملك كلفه بتشكيل الوزارة في أب عام 1976 وكانت خطة التنمية الثلاثية قد انقضت سنواتها دون إنجازات يحين قطاف ثمراتها. وكثر الحديث الناقد لأداء المسؤولين عن التنمية وكنت مع رئيسي المرحوم المهندس عمر عبدالله دخقان ضمن أولئك المسؤولين، وكان عمر رحمه الله من المقلين في الكلام الجسورين في الفكر والأداء. فلم نكن من هواة الظهور الإعلامي ولا من محترفي إطلاق النوايا والوعود.
ولحرص رئيس الوزراء الجديد على متابعة مسيرة التنمية، وقد كثر الكلام عن بطئها كما أسلفت، أعلمنا دولته أنه ينوي زيارة وادي الأردن في اليوم التالي (أي كبسة)! ونشطت يومها لترتيب زيارة دولته ولإطلاعه على ما نقوم به من أعمال. وكانت تلك الأعمال متعددة الجبهات مكانياً في وادي الأردن وقطاعياً في ميادين الاقتصاد المتعددة واجتماعياً من حيث المرافق والخدمات متعددة الوجهات. توقف دولته في موقع في غور الكفرين وشهد بدء أعمال مشروع ري هناك، ثم توقف في بيت شعر ابتنيناه للمناسبة في غور كبد (حوض طواحين السكر) لسماع عرض قدمته عن المشاريع التي يتسارع العمل بها. وشهدت الدهشة السعيدة ترتسم على محياه عندما شاهد الآليات تعمل في تمديد قناة الملك عبدالله (الغور الشرقية يومها) والسواعد تبني المدارس في معدي والدباب ودير علا وضرار وكريمة ووصفت له امتداد المشاريع كلها جغرافياً.
ومع فرحته استشاط دهشة وأذكره يقول: أين هي الصحافة عن تغطية هذه الأعمال التنموية الرائعة؟ وطفق بعدها ينظر إلى كلينا، عمر عبدالله وأنا، نظرة خاصة لا يأبه لما تلوكه الألسن من تعليقات سلبية، ولم يتردد في تحويل هيئة وادي الأردن إلى سلطة وادي الأردن ولا في امتداد مسؤولياتها جغرافياً لتشمل منطقد البحر الميت والأغوار الجنوبية ووادي عربة.
ثم كان دعمه القوي في البدء بدراسات الجدوى لبناء سد المقارن، وفي الدفاع عن الحصة الأردنية في نهر اليرموك. إذ كنا نواجه مخالفات الشقيقة سوريا شمالاً وشرقاً وتجاوزات إسرائيل غرباً. وكان للفارس الفقيد جولات حاميات دفع بالشجعان منا إلى خوضها بدعمه اللامتناهي. ولن أنسى صلابته في حزيران 1979 حين تمكنا من استعادة ما كان يسيل إلى إسرائيل من حصتنا بسبب توقف أعمال الصيانة في قاع النهر جراء احتلال إسرائيل للجولان عام 1967. وتجاوزنا حصتنا في مياه النهر وتباطأنا في الاستجابة للشكوى الإسرائيلية. فتحركت قوة إسرائيلية محدودة العدد والعدة وعبثت في موقع اقتسام المياه دونما إذن وإشراف من هيئة الرقابة التابعة للأمم المتحدة. فجاوبها دولته، رئيس الوزراء ووزير الدفاع، دون تردد بتحريك قطعات من الجيش العربي وأصدر دولته لي الأوامر بالتواجد في موقع النهر الساعة السادسة صباحاً لألتقي بقائد الفرقة 12 الملكية والعمل على استعادة ما اغتصبته القوة الإسرائيلية قبل ساعات.
ذهلت من المنظر الميداني لما وصلته ذلك الصباح من منتصف حزيران 1979، إذ كان على الجانب الأردني قطعات عسكرية مسلحة بالمدافع والدروع تقابلها على الجانب المقابل المحتل قطعات عسكرية مدججة. ووجدتني في المساحة بين الفريقين برفقة قائد الفرقة 12 الملكية الذي أراني ما فعله المعتدون في الليلة السابقة. انتابني القلق والرهبة إذ رأيت المدافع الموجهة على بوابات قناة الغور الشرقية، وتكفي قذيفة واحدة أن تودي بالنفق وبوابته وتحيل قناتنا التي تعتمد زراعة الأغوار عليها إلى أثرٍ بعد عين. رفض قائد الفرقة طلبي سحب قواتنا كي يتسنى لهيئة الرقابة السيطرة على مجريات الأمور، فعدت أدراجي إلى عمان ووصلت مكتب الرقابة الدولية في جبل اللويبدة قبل انتهاء ساعات الدوام بدقائق. وأذن لي الضابط النمساوي باستعمال هاتفهم واتصلت بدولة رئيس الوزراء وزير الدفاع.
رجوت دولته أن يأمر بسحب قطعات الجيش العربي من الموقع حيث هي التي بدأت بالتعبئة، وفوجئ دولته بطلبي وقال لي: “أنا بعرفك أنت خوّيف” قلت لدولته “لم تعط شعوري حقه، أنا لست خويفاً فقط! أنما ركبي لا تكاد تحملني، والسبب لدي واضح وهو أن عليّ أن أروي الزراعات فهي لا تقوى على السير لترد المياه، وما رأيته من سلاح كفيل بإعطاشها وقد أنفقنا على ريها عشرات الملايين وأنفق المزارعون أضعاف ما أنفقناه، وواجبي ألا تعود أغوارنا واجهة للمواجهات المسلحة لنعود نلتمس المساعدات المالية لإصلاحها وإعادة إعمارها. ووجدت صعوبة في إقناع دولته ورجوته أن يمهلني 72 ساعة لاستعادة ما سلب من حقنا وأمهلني 48 ساعة فقط، ونجحت محاولاتي في استعادتها بالعمل مع هيئة الرقابة ولجنة الهدنة المشتركة.
ولم يكن دعم دولته أقل شأناً في مواجهتنا الأشقاء في سوريا للحد من تعدياتهم على الحصص الأردنية في نهر اليرموك سواء باستخراجهم المياه الجوفية التي تغذيه أو ببناء السدود لحجز ما ترفده روافد اليرموك الأربعة من سوريا، أو حتى بالضخ المباشر من مياه النهر ذاته لإرواء مزارع سورية تجاوره.
ثم كان لدولته من الحكمة والصبر ما مكننا من تعديل بعض المشاريع قصيرة النظر والمدى. فقد تمكنا عام 1977 من إلغاء مشروع كان يقضي بتزويد العاصمة من مياه سد الملك طلال والاستعاضة عنه بجر مياه للعاصمة من الأزرق. ثم كان لحكومته الفضل في فتح الأعين على عجز موارد المياه عن الوفاء بحاجة السكان، إذ أجريت بإشراف المجلس القومي للتخطيط دراسة عن وفرة مياه الشرب وأوضحت بعجز المصادر الجوفية عن الوفاء بالإلتزامات، وطلب دولته إلينا بإيجاد الحلول واقترحنا مشروع مياه دير علا – عمان ومشروع مياه وادي العرب – إربد وتم المباشرة في تنفيذهما خلال حكومات دولته. وقررت حكومته الاتصال بالعراق الشقيق لتزويد الأردن بمياه من حصته في نهر الفرات، وأجريت الدراسة لذلك، وكانت الكلفة عالية بالمقارنة بقدرة المستهلكين فتأجل تنفيذ ذلك المشروع الكبير.
وجهود دولته في تحريك مشاريع التنمية وتنفيذها عصية على التعداد، إلا أنني أستطيع التأكيد أن فترة رئاسته شهدت تنفيذ مشاريع المياه الرئيسية العديدة وهي على سبيل المثال لا الحصر: إنجاز بناء سد الملك طلال، بناء سد وادي العرب، مشريع الري في وادي الأردن التي أضافت 83 ألف دونم للمساحة المروية. وكان لمجلس الوزراء برئاسته إنجازات في التنمية الريفية في الأغوار من مدارس ومراكز صحية وأبنية الأدارة الحكومية ومراكز التسويق وغيرها الكثير لا سيما البحث عن المياه الجوفية. وربما كانت جهود التنمية للأغوار وخاصة الأغوار الجنوبية وساماً وطنياً على صدره، ولا غرو في أن مشاريعها امتدت لتغطي فترات حكومات سابقة وأخرى لاحقة. لكن دوره فيها يشار إليه بالبنان.
نال الفارس الفقيد إعجاب العاملين في تنمية البلاد، ورغم قسوته علينا أحياناً إلا أن “اللي في الرجال بنعد”، ولا يسعني إلا الثناء على دوره التنموي خاصة التنمية المتكاملة في وادي الأردن والتوسع الكبير في إنتاج الفوسفات، وإيقاظ مشروع استخراج البوتاس من البحر الميت من سباته وحتى إنجازه.
آليْتُ أرثيه من فكري وحاضِرِهِ “لا يؤخذ الشيء إلا من مصادره”
ولأهل دولته ولمحبيه عزاؤنا وللفقيد دعواتنا للمولى أن ينزله منازل الصديقين جزاء ما أنجزه للبلاد من خدمة جلى.