محمد داودية
تـفجـيـــر أنبــوب النـفــط فـي المـفـــرق
سخــطاً عـلــى العــدوان الثـلاثــي عـلـى مـصــر
برّ احمد العقايلة مدير تربية البلقاء بوعده. فقد جاءني كتاب النقل من قرية سويمة إلى معان التي كانت قد خرجت للتو من الفيضان المدمر الذي اكل قلبها فتلقفته بلهفة وامتنان، ذلك أنني عشت نحو سنتين من سني طفولتي في معان ودرست فيها الصفين الثالث والرابع الابتدائيين وعشت في كنف أخوالي الخوالدة- آل خطاب كرام الناس، أميرا مدللا، تحفني العناية والرعاية، أجد لي في عشرات البيوت مودة وحنوا وترحابا، فقد توفي والدي وانأ في الرابعة من عمري وكان والدي- أبو علي، جوادا كريما يغيث الملهوف ويلبي حاجات من «ينصاه» ويطرق بابه، خاصة وانه كان ميسورا بفضل عمله في الاجفور – الرويشد الآن- التابعة لشركة نفط العراق «الآي بي سي»، حيث ولدت وأمضيت سنوات عمري حتى سن التاسعة في منزل جدي مزعل إبراهيم مشري الخوالدة –أبو إبراهيم في الاجفور.
الاجفور هي حيفا 4. وهي المحطة الرابعة من محطات شركة نفط العراق الممتد انبوبها من كركوك الى حيفا وبانياس وهي جزء من سلسلة الاجفايف -حيفا 5. والاتش ثري – حيفا3.
تم انشاء شركة «الآي بي سي» عام 1912 وتم تاميمها عام 1970. واذكر اننا سمعنا انفجارا هائلا عام 1956 فهرع سكان المفرق ونحن الأطفال نسبقهم الى حيث موقع الانفجار الذي كان شمال غرب المفرق. كان أنبوب نقل النفط من كركوك الى حيفا ممزقا والنفط الخام المتبقي في الانبوب تشتعل به النار ويملأ الوادي الذي ظلت حجارته سوداء لسنوات طويلة لاحقة. لقد فجّر الجيش العربي الانبوب انتصارا لمصر التي كانت تتعرض للعدوان الثلاثي الإسرائيلي-البريطاني- الفرنسي.
حين أخذ الله مني والدي في سن مبكرة عوّضني تعويضا كاملا. فتولى رعايتي وحراستي وحمايتي ورزقي وتوجيه خطاي، كنت أحس إن الله يمسك يدي.
رجعت إلى المنزل من ساحة اللعب لتناول وجبة الإفطار، كان عدد من الرجال يقفون أمام المنزل ويدعون أخي احمد إلى الاقتراب لكنه ظل يقف بعيدا وهو يرفض الاقتراب، طلبوا مني أن أطارده وان امسك به، عدوت خلفه إلى أن تعب فأمسكته ولما وصلوا إلينا امسكونا معا، حاولت أن اعرف لماذا يلقون القبض علينا إلى أن أوثقونا وتقدم رجل يمسك في يده موسى الحلاقة وطهّرني أولا.
غرقت في الدم والألم وعندما عاد جدي مزعل من العمل وقت الغروب، عادني وهو في أعلى درجات الغضب والاستياء وسمعته يقول صارخا: كيف بتعلموا محمد يمسك أخوه ويسلمكم إياه !!
كان ذاك هو الدرس الأول، الابلغ والاثمن، في قواعد الخُلق والحياة: لا تُسلِّم أخاك.
كان «الكامب»، المعسكر المُشيّك المخصص للعاملين في شركة نفط العراق في الاجفور، قطعة من بريطانيا. كانت البيوت أحياء مستقيمة متقابلة بأبواب خشبية وعليها أبواب ذات مناخل، تفصل بينها شوارع فسيحة مضاءة بالفوانيس، وكانت سيارات «الجيب» تزود كل المنازل، يوميا، بحاجتها من قوالب الثلج – لم تكن الثلاجات موجودة- والخضار والدواجن مجانا، وكان في «الكامب»-يسميه الناس الكمب- سينما ومدرسة، أتذكر من معلماتي فيها الست مريم السمراء ذات احمر الشفاه الغامق والكشرة الدائمة. والست أيديل عويس العجلونية الطيبة الرقيقة. والست نجلاء التي اذكر منها اسنانها البارزة وحنانها البارز.
وكان في الكمب، السوبرماركت البريطاني الشهير»السبنيز» وكان فيه أطباء وتطعيم أطفال وعيادة وملاعب كرة قدم وقاعة مغطاة تضم ملاعب سكواش وكرة يد وكرة سلة وبركة سباحة مغطاة وأخرى مكشوفة ومكتبة أطفال ومكتبة كبار و»ميز» ومقهى وخيرات الله.
وكما عشت طفلا في بيت جدي في معان، سكنت شابا في بيت خالي إبراهيم- أبو المرحوم عادل نائب معان الفارس الجسور. تم تعييني، معلما للغة الإنجليزية والرياضة، في مدرسة فلسطين في معان. وعندما راجعت مديرية التربية هناك صادفت المساعد الإداري محمد خليل خطاب الخوالدة الذي ما أن رآني حتى قال: أنت محمد بن حسن ابن «جظة» بنت مزعل وأمها فضية من قوم حرارة وأخوالك هم إبراهيم ومشري وعبد الحليم وخالاتك هن حليمة وهدية وسامية…، كان محمد آل خطاب نسّابا لا يشق له غبار.
اعتُقل المعلم البعثي، عبد الحميد الذنيبات، الذي كان معلما منفردا في مدرسة بير أبو العلق في الشوبك، وظل طلاب مدرستها شهرين بلا معلم، فأعربت عن رغبتي في العمل في المدرسة إلى حين الإفراج عن المعلم المعتقل.
عصرا، حملني عودة المعاني مدير التربية والتعليم، بالسيارة الرسمية إلى «بير أبو العلق» معلما منفردا، وطلب مني أن استخدم «يطق» المعلم الذنيبات الذي هو السرير وملحقاته، أوصلني الرجل الشديد التهذيب والرفق إلى المدرسة وعاد. كانت المدرسة مكونة من غرفتين، غرفة لمعيشة المعلم ونومه والغرفة الأخرى للتدريس ولم يكن للمدرسة -ومعظم مدارس القرى- «منافع» أي حمامات، كانت الحمامات و» الشورات» ترفا لا يفكر فيه احد.
كنا في شهر تشرين الثاني عام 1966، وبرْدُ الشوبك الرهيب في أول تفتحه، وثلج الشوبك الموصوف، في طوره الجنيني، وجدت في الغرفة سريرا وملحقاته وصوبة ديزل وكنت حملت معي «جركني ديزل ورطل خبز وكروز سجائر كمال وكروز كبريت وعبوة سعة كيلوغرامين من زيت الزيتون الطفيلي وعبوة من الزيتون المكبوس الطازج وعددا من معلبات التونا ماركة الوردة ومعلبات البولبيف البرازيلي الشهير ماركة اكسترا والبيض والملح والسكر والشاي – لم أكن اعرف القهوة ولا اشربها حتى الآن- ولاحظت وجود صناديق وعلب مغلقة.
بالتأكيد حملت معي راديو «ترانزستور» وبطاريات إضافية وحقيبة مليئة بالروايات وبدواوين الشعر الجاهلي وأبرزها ديوان المتنبي وديوان الهذليين، الذي فيه أجمل قصائد الرثاء الإنساني بلا منازع، التي يقول في أبرزها أبو ذؤيب الهذلي:
أَمِنَ المنون وريبها تتفجّعُ
والدهرُ ليس بمعتبٍ من يجزعُ.
قالت اميمةُ ما لِجِسْمِكَ شاحبٌ
منذُ ابتذلتَ ومثلُ مالكَ ينفعُ.
فأجبتها أن ما بجسميَ انه
أَوْدى بنيَّ مِنَ البلادِ وَودَّعوا.
إلى أن يقول:
وإذا المنيّةُ أنشبت أظْفارَها
الفَيتَ كُلَّ تَميمةٍ لا تَنفَعُ.
والنفسُ راغبةٌ إذا رغّبتها
وإذا تُرَدُّ الى قليلٍ تقنـعُ.
فتحت ثلاث علب تونا أكلتها على الواقف شربت زيتها واستخدمت المعلقة لتجميع القطع البيضاء الشهية وتناولتها دون صحن ودون ليمون ودون خبز. كان ذلك عشائي الأول في تلك القرية القصية.
نمت بعمق لم أعهده، استيقظت نحو الساعة السابعة وتوجهت إلى البئر القريب و»نشلت» دلو ماء غسلت طنجرتين وسطلا من الألمنيوم وضعت الماء فيها ثم وضعت إبريق الشاي على الصوبة. اكتشفت أن غرفتي مليئة بالمواد الغذائية المكونة من الشاي المسحوق بعبوات زجاجية سعة 500 غرام لكل عبوة وكيس من السكر زنة عشرين كيلوغراما وثلاثة أكياس من الحليب المجفف سعة عشرة كيلوغرامات وعدس حب وفاصولياء وبازيلاء ناشفة وأكياس صغيرة من الملح وعدد من عبوات المربى سعة خمسة كيلوغرامات لكل عبوة ووجدت كيسي طحين.
إذن، المعلم الذنيبات يتاجر بالمواد الغذائية.
أفطرت بيضا مسلوقا وبضع حبات من الزيتون، أشعلت سيجارة كمال وتجولت أمام المدرسة في طقس ندي خرافي النقاء لدرجة أنني لمت نفسي على تلويث البيئة بسيجارتي. نظرت إلى الساعة كانت الثامنة، لم يصل الطلاب بعد، أصبحت الساعة التاسعة والعاشرة والثانية عشرة والثانية بعد الظهر ولم يأت الطلاب. ذهبت إلى القرية القريبة فلم أجد فيها أحدا، كنت وحيدا في تلك البقعة الجبلية الباردة الفسيحة.
مرت أربعة أيام لم أشاهد خلالها إنسيا ولم أتحدث مع احد، بلغ ضجري وتوجسي وترقبي مداه، كان معي مسدس «بيرتا» اشتريته من معان بسعر 30 دينارا بالتقسيط المريح -دينارين شهريا- بمعرفة الخال الغالي أبو عادل، تحوطا من الوحوش التي تتحرك على شكل مجموعات والتي حذرني منها محمد خليل خطاب وهاني محمود عبد القادر سكر ومحمد عوض كريم ومحمد عطية اخو عميرة وعدد من الأصدقاء.
ذات عصر لمحت خيّالا يتحرك على بعد كيلومترات، لوحت له بيدي فلم الفت انتباهه فأطلقت طلقتين في الهواء فتوقف. توجه نحوي. تغدينا غداء مكونا من المربى والتونا والبيض المقلي بالسمن البلدي الذي كان يحمله. قال لي إن الأهالي يغادرون القرية بطلابهم وأغنامهم وخيولهم وحميرهم وكلابهم في مطلع الشتاء إلى المناطق الدافئة «المدافي». وإنهم لا يعلمون بعد عن عودة المعلم إلى المدرسة.
بعد يومين طويلين من الانتظار جاء فرج الله. وصل الطلاب ومعهم عجوز وبغلان يحملان متاعا وطحينا. سكن الطلاب العشرة في بيت واحد مكون من «قَطْعٍ» كبير. كانت العجوز تخبز لهم وتطبخ لهم عدسا أو جريشا أو رشوفا.
عرفت من الخيّال أن المواد الغذائية الموجودة في غرفتي هي تبرعات من جمعيات خيرية دولية لطلاب القرى الفقيرة وكان النظام هو أن يوزع المعلم مطلع كل شهر المواد الغذائية على الأهالي. قررت أن أغير النظام الذي لا يحصل الطلاب بموجبه على إذن الجمل. نقلت مقاعد الطلاب من الغرفة الأخرى ذات الزجاج المهشم، التي تشبه «الفريزر» في شدّة برودتها إلى غرفتي التي أصبحتُ ادرّس الطلاب فيها.
أصبحت اغلي الحليب المجفف في الطنجرة الكبيرة على البريموس الضخم المخصصين للمدرسة، على الساعة العاشرة صباح كل يوم -بما فيه يوم العطلة الجمعة- واسكب للطلاب في أكواب كبيرة، الحليب الدافئ المحلى وهم يتحلقون حول الصوبا ووجوههم غاية في الاحمرار، كان ثلاثة من الطلاب العشرة في الصف الثاني وثلاثة منهم في الصف الثالث وثلاثة منهم في الصف الرابع وطالب في الصف الخامس.
بعد أيام، هطلت ثلوج الشوبك كثيفة بلا انقطاع لمدة ثلاثة أيام فوصل ارتفاع الثلج إلى نصف ارتفاع باب الغرفة، لم يأت الطلاب، فذهبت إلى مسكنهم للاطمئنان عليهم. وصلته شبه متجمد، فوجدت العجوز قد أشعلت حطبا في الغرفة التي يتعذر أن يرى من فيها ابعد من أصابعهم. ناولتني رغيف خبز ساخنا وقطعة من السمن البلدي الجامد وألقت عليّ فروة ثقيلة كانت تنام فيها.
مر وقت قبل أن اشعر بالدفء، أصر الطلاب على أن أنام عندهم. وهكذا كان، سهّرتهم وحكيت لهم كيف هو العالم في الخارج، ورويت لهم قصصا عن تاريخ المنطقة، عن المؤابيين والأنباط الذين تبعد مدينتهم البتراء عنهم مسافة 25 كيلومترا فقط، استأت عندما علمت أنهم لم يزوروا البتراء.
عندما حل الربيع، استأجرت على حسابي «بكبا» بدينارين حملنا إلى البتراء، حيث أمضينا يوما كاملا نتجول بين آثارها ونتعرف على تاريخها من دليل سياحي شهم يملك مطعما صغيرا أصر على أن يدعونا اليه لتناول طعام الغداء المكون – حسب إصراري- من شاندويتشات الحمص والبطاطا المقلية والفلافل وزجاجات الكازوز ماركة سحويل، التي شربها الطلاب أول مرة في حياتهم.
كانت الناس على فطرة لا تضاهى وعلى براءة أخّاذة وعلى تلقائية فاتنة وعلى ودّ باذخ، و… ما تزال.
ملاحظة: علمت أن قرية «سويمة» التي تقع على سيف البحر الميت والتي كان فيها مدرسة قبل عام 1966 لا يوجد فيها اليوم عيادة طبية ولا مركز صحي ولا مخبز ولا مطعم شعبي ولا صيدلية، اكثر من نصف قرن مرت على خدمتي هناك وحال الناس كما كان.