قراءة في رواية ظل الغراب لسعيد الصالحي
انجاز : صدرت في عمان الرواية الأولى لسعيد الصالحي بعنوان ظل الغراب في 238 صفحة من القطع المتوسط، تدور أحداثها في دكا عاصمة بنغلادش خلال فترة الحجر بسبب وباء كورونا، يستلهم التراث العربي في نص إيكولوجي يكشف العلاقة بين الإنسان والحيوان. مزجت بين الحقيقة والخيال، والفنتازيا من خلال أنسنة الغراب الذي أخرج البطل من الوحدة والملل والأرق إلى الانطلاق والمغامرات، ليكتشف أنه ليس كومبارسا كما اعتقد في نفسه طول سنوات عمره وإنما يستطيع أن يكون بطلا لحكايته.
استطاع الصالحي أن يجذب انتباه المتلقي ويحثه على متابعة أحداث الرواية في براعة استهلاله وهو يصف زائره الذي ” كان يقف خلف أشعة الشمس مختالا بلونه الأسود ورأسه الكبير، واستغربت وجوده على شرفتي بكل هذه الثقة” ص8 من هو هذا الزائر؟ وماذا يريد من هذا الغريب؟ هذه المقدمة، وهذه الأسئلة دفعت المتلقي لاستمرارية البحث عن الإجابة، وهذا يسجل للرواية.
جاءت الرواية محملة بمضامين ورموز، وإحالات ودلالات، فقد كشفت الرواية من الصفحات الأولى عن حالة التوتر والقلق الذي يسكن البطل/ الراوي وهو يغني بصوته غير الجميل أغنية أم كلثوم ” ابعت لي وقلي .. انت فين لو تقدر. بستنا منك .. كلمتين مش أكتر. يطمنوني حبة .. عليك وع المحبة”.ص10 جاء هذا التناص ليعبر عن الظرف النفسي للراوي فيصير رمزا للتوتر والقلق.
ومن التوتر والقلق يبدأ صراع الروي مع الوسادة الأجنبية التي ” أحكمت سيطرتها على قلب جيشه وميمنته فاستعان بميسرة الجيش في محاولة لتغير الوضع في ساحة المعركة. ص12 هذه الوسادة التي في العادة ترمز للسعادة والراحة والاستقرار جاءت هنا رمزا لصراع الراوي مع المجهول الذي لا يعرف عنه شيئا.
كما جاء الشيب الذي ظهر في شعر الراوي فجأة بعد ما سمع الغراب ينطق ويكلمه رمزا لحالة الخوف الشديد من المجهول الذي تعرض له، ص41 ففي الموروث الشعبي أن الشخص إذا تعرض لحالة خوف شديد يظهر بعض الشيب في شعره.
وفي إشارة رمزية إلى الاستعمار الذي يحاول السيطرة على مقدرات الشعوب وقتل ما هو جميل في حياتهم، يتذكر عبد الحليم حافظ “لو أن عبد الحليم قد عاش لفترة أطول، كيف سيغني من غير ليه … قبل أن يجهز عليه الإنجليز في مشفاهم عندما نقلوا له دما ملوثا” ص131.
ومن الرموز التي وظفها الصالحي، الشيخ بدر الخير الذي أحبه الناس رمزا لمن يلبسون عباءة الدين لتحقيق مصالحهم الشخصية. ص139 والغراب رمز التفاؤل والأمل، وصندوق الكتب رمزا للحقيقة المخفية لسبب أو لآخر، ولفافة القشيري مفتاحا لهذه الحقيقة.
رموز كثيرة حفلت بها الرواية لا يتسع المجال لذكرها.
وكما هو معرف فقد شكلت الرواية العربية الحديثة حقلاً خصبا تداخلت فيه الأجناس الأدبية على التراث الشعبي، الذي شكل حضوره في العديد من الروايات، يستدعيه الرّوائيُّ على اعتبار العودة إلى التراث لحمايته من السرقة أو الاندثار، وللتعبير عن الظرف نفسي لأحد شخصيات الرواية بصور إيحائية أختزل فيها الكثير.
وهكذا نجد أن رواية ظل الغراب قد اتخذت أشكالا متنوعة من التراث الشعبي؛ منها الأساطير والمعتقدات والعادات، والأمثال والأقوال الشعبية وغيرها، فاختار سعيد أن يكون عنوان روايته وبطلها الغراب الذي تمحور السرد حوله، هذا الطائر المعروف في التراث الشعبي أنه طائر مشئوم ونذير بالموت والخراب، “حتى رؤيته في الأحلام غير محمودة” ص48 ، هذا المعتقد في كثير من دول العالم حتى في الثقافة الشعبية البنغالية حسب ما قاله الفتى للطيب: ” هذه الغربان مخلوقات عدائية، وفي بلادنا يقولون إن الشيطان يسكن الغراب دائما” ص89، ومع ذلك تحول هذا الطائر في رواية سعيد الصالحي إلى رمز للتفاؤل والأمل.
وللمطر في المعتقد الشعبي فوائد علاجية لبعض الأمراض الجسمية والنفسية، فهو في معتقد الطيب يغسل الجسم من الحسد والعين، ولذلك ظل يلاعب حبات المطر ويغسل شعره بها لأنها خلَّصته من الملل والكآبة ص85 وتمنحه التفاؤل والأمل.
وهكذا حملنا الطيب إلى زاوية الشيخ بدر الخير لنحضر عادات وتقاليد الصوفية داخل زواياهم، “بدأت الحضرة ببعض آيات من القرآن الكريم، ثم ألقى الشيخ بدر الخير خطابا قصيرا، ثم وقف الجميع … وبدأ النقر على الدفوف والتمايل الموضعي لجميع من بالقاعة، وبدأ مايسترو الحضرة يتحكم بالصوت والإيقاع….” ص120
فقد جاء توظيف فيلا / زاوية الشيخ بدر الخير تصويرا لحالة العزلة والجمود الفكري، هذه العزلة تتمثل في وصف الفيلا والأشجار من حولها والحراس يرتدون زيا مميزا…. وكان باب الخارجي للفيلا ثقيلا ويتم التحكم به عن بعد.
بين غراب إدغار آلان بو وغراب سعيد الصالحي.
حظي الغراب باهتمام كبير في التراث الشعبي الإنساني عند جميع الأمم عبر التاريخ، وأغلبها تجمع على أنه طائر مشئوم ونذير بالموت والخراب فقالوا في تراثنا: ” مثل الغراب ما بنعق غير في الخراب”، فهو يحمل كل شر، وهكذا كان غراب إدغار آلان بو كما وصفه بقصيدته المنشورة عام 1845، عندما اقتحم عليه الغرفة في ساعة متأخرة من الليل وجلس فوق تمثال قرب الباب، حاول أن يتعرف على حقيقة الغراب وعلى طبيعة الرسالة التي جاء بها وسأله عن اسمه ثم بدأ باستجوابه فعساه يقدم له الأمل بلقاء حبيبته، لكن غراب اليأس لم يجب عن الأسئلة واكتفي بقوله: ليس بعد.
رغم توسل الشاعر للغراب أن يقول الحقيقة ويصدق في الخبر هل سيلتقي بحبيبته؟ إلا أن الغراب لا يقول إلا لا عود.. تلك النبوءة التي يرفض الغراب أن يتزحزح عنها.
هذا الغراب يختلف عن غراب سعيد الذي أصبح للطيب أنيسا يبدد الصمت ويقتل الألم، بل أكثر من ذلك، كان يجد في صوته مقامات موسيقية.
هذا التفاؤل كان متبادلا بين الطيب والغراب الذي وصف الطيب بأنه “غراب طيب من بلاد العرب يشعل النار وينفث السحب، غراب ممشوق سيحمي الصندوق” ص56 بعكس غراب إدغار آلان بو نذير الشؤم.
أسلوب أجاثا كريستي ورواية ظل الغراب:
كما ذكَّرتني رواية ظل الغراب بأحداثها شبه البوليسية بروايات أجاثا كريستي برواياتها في أدب الجريمة بأسلوبها البوليسي، بلغة إنجليزية بسيطة، مما ساهم برواج رواياتها في الأوساط الشعبية في جميع أنحاء العالم، وأُعجب بأسلوبها الروائي البوليسي النقاد والكتاب، فقد ظهر هذا الأسلوب في رواية ظل الغراب عندما صدف الطيب مجموعة رجال عند شجرة الماهوجني، ويراهم مرة أخرى عند المقبرة، تأكد أنهم يراقبونه فيقول: “كأني في مشهد متسلسل من أحداث روايات أجاتا كريستي” ص94. لتبدأ مشاهد الإثارة ” وما أن وضعت رأسي وصدري خارج القبر لأستنشق الهواء حتى شعرت بضربة قوية على رأسي، دارت الدنيا أمامي وسقطت داخل القبر” ص102، ليكتشف نفسه يتلقى العلاج والرعاية الصحية في قصر الشيخ بدر الخير.
تستمر الرواية بسرد أحداث الإثارة وتحقيقات بدر الخير مع الطيب التي تتشابه مع تحقيقات مراكز البوليس ” سأكون مباشرا في أسئلتي، ماذا كنت تفعل طوال الوقت في المقبرة؟” ص122، وإصرار الشيخ على تكرار هذا السؤال، وإشارته أن رجاله هم من أنقضوا الطيب من عصابة ابن الداسم.
ويلتقي الطيب مع سلمان الرسام مخبر الشيخ بدر الخير صدفة مقصودة في الحديقة، وبعد عدة لقاءات مع الرسام قدم له كوبا من القهوة جعلته في غيبوبة لم يخرج منها إلا في غرفة جدرانها معدنية لا تصلح للجرذان، ص172 يستجوب من عصابة ابن الداسم حول زيارته للمقبرة ويسألونه عن شيء أخفاه في محتويات الصندوق (اللفافة) فأنكرها الطيب.
وتستمر الرواية في سرد الأحداث بين الطيب وعصابة ابن داسم والشيخ بدر الخير حول القبر واللفافة المفقودة، حتى يكشف الشيخ بدر الدين أوراقه أمام الطيب ويعترف له أن ابن الداسم من رجاله وأن جماعته هم من ضربوه عند القبر وأحضروه مع الكتب والصندوق. ص235 خاطبه بلهجة التهديد: ” أين أخفيت اللفافة أيها الغريب؟ لا تضيع وقتي ولا تختبر صبري”.
ألف ليلة وليلة وحكاية غراب الظل
تحملك الرواية إلى أجواء حكايات ألف ليلة وليلة و(الفنتازيا) التي تصول وتجول بين صفحات الرواية، فقد تكلم الغراب في رواية ظل الغراب كما تكلم الحمار والثور، والديك والكلب في حكايات ألف ليلة وليلة، فقد نطق الغراب وأخبر الطيب أن النبوءة قد تحققت فقال: ” نحن ننتظر قدومك هنا منذ سنوات عديدة، والحمد لله أن ظهورك كان في عهد جيلنا من الغربان ….” ص45 لينهي أبو توفيق الحوار قبل استكماله فيقول للطيب:” سلام، فعندي بعض المشاغل لأقضيها، نراكم. وكأنه يقول: وأدرك شهريار الصباح.
تكرر قطع الحوار دون استكماله كثيرا في الرواية ص50 وص54 و70 و223، وهذا ما جعل الزميلة فداء طه تقول: “ولعل (ظل الغراب) تصلح أن تكون الحكاية الثانية بعد الألف لحكايات ألف ليلة وليلة”. هذا القطع دفع المتلقي لمواصلة قراءة الرواية لكشف المزيد من الأحداث والبحث عن الإجابات المؤجلة.
ظل الغراب، رواية فيها المزيد من المضامين الاجتماعية والسياسية التي أشار إليها الصالحي محملة بالرموز والإيحاءات والدلالات، تستحق أكثر من قراءة.