زياره ملكيه ناجحه لبغداد
زيارة مرتبة وواضحة الأهداف والتوقيت تلك التي قام بها عاهل الأردن عبد الله الثاني للعراق اليوم الاثنين، فقبل بداية فبراير/ شباط المقبل، من الوضح أن عمان كانت بحاجة “غطاء سياسيٍّ” للاتفاقات الاقتصادية التي وقعها رئيس الوزراء الدكتور عمر الرزاز مع نظيره العراقي عادل عبد المهدي قبل أسبوعين. الغطاء السياسي يحمل ضمنيّاً هدنةً وتفاهمات ولو بصورة- غير معلنة- مع طهران، كيف لا ووزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أساساً في العاصمة العراقية ذاتها.
فبراير المقبل هو الموعد الذي حدده رئيسا الوزراء للبلدين (الرزاز وعبد المهدي) لبدء سريان التفاهمات والشراكات، وهو الموعد الذي كانت عمّان سترتطم بواقع عدم تطبيق أي شيء فيها، لو لم يتحرك الجناح السياسي للدولة الأردنية الذي يقوده الملك ومؤسسة العرش لمباركة الاتفاقيات الاقتصادية ومنحها الغطاء السياسي الذي لا يقتصر على ما طالب به الزعيم الشيعي قيس الخزعلي بإيجاد صيغة تضمن “عدم التعامل بطائفية مع العراقيين الزائرين لعمان” مع إظهاره الودّ والترحاب للملك.
زيارة عاهل عمان بكل الأحوال، وقبلها نفي الانباء الرسمي (عبر منصة “حقك تعرف” الرسمية الجدلية) عن التعامل الطائفي مع العراق، يؤكدان ان عمان تقترب خطوة للأمام من جيرانها في العراق، بينما تعود خطوة مباركة للخلف في رواية “الهلال الشيعي” القديمة التي صدرت عن العاصمة الأردنية في نهج سيطرت عليه الأفكار “السعودية” الخليجية التي كانت في حينها معادية لإيران.
العاصمة الأردنية، التي يزور مليكها اليوم بغداد بعد نحو عشر سنوات من آخر زيارة، تعرف بوضوح أن عمقها الشرقي ليتم تفعيله يمرّ القرار بشكل أو بآخر بأصدقاء طهران في العراق على الأقل، والذين “منطقياً” لم يكن لعمان أي مصالح حقيقية في معاداتهم سابقاً، كما والاهم من ذلك، أن ترطيب الأجواء مع بغداد بهذه الصورة الحافظة لماء وجوه الجميع هي التي ستفتح المجال امام استئناف العلاقات مع سوريا أيضاً لو تم اعتمادها والتمسّك بها.
في الجانب التقني للمرحلة الجديدة، يُحسب للقرار الأردني ان رئيس الوزراء عمر الرزاز حفظ للقرار السياسي الأردني ماء وجهه وهيبته بدل انطباعات “التنقل بين المحاور”، كما حمى القرار السياسي بالمقابل للرزاز “حرية الحركة الاقتصادية” وهو الامر الذي سيمهد لعمان التي اتخذت قرارها العميق بـ”عدم العودة لمرحلة التسول”- وفق ما استمعت له “رأي اليوم” من أعلى المرجعيات السياسية والأمنية- والاعتماد على الذات.
بهذه الصورة، ووفقاً للقاعدة الاقتصادية البراغماتية تُعيد العاصمة الأردنية حساباتها، وتستأنف علاقتها مع الجار الشرقي الذي يتعافى اقتصادياً وإدارياً، ووفقاً لتركيبته الكاملة من رئيس الدولة الكردي مروراً برئيس الوزراء الشيعي ورئيس مجلس النواب السني، بعد جمودٍ في العمق دام لأكثر من عشر سنوات لم يزر فيها الملك عبد الله جيرانه في الشرق، كما ما يقاربهم مع جيرانه في الشمال.
الانتهاء من ملف العراق، لصالح فتح العلاقات يوحي عملياً بإشارات إيجابية يجب أن يلمسها الأردنيون والعراقيون على حد سواء، خصوصاً وان انكار المعيقات التي كانت تفرضها نظرة أمنية فيها بعض الطائفية بوجه العراقيين في السنوات العشر الأخيرة وعدم معالجتها لن تكون مفيدة أبداً، رغم الاجماع على المحبة والاحترام بين الأردنيين والعراقيين.
فتح الحدود أمام المقاولين الأردنيين ضمن جهود إعادة الاعمار والشركات المحلية، يمكن له ببساطة ان يعوّض جانباً من الاقتصاد المختنق جداً في عمان، والذي يصرّ رئيس الوزراء أنه الحل لمحدودية السوق الأردنية. بهذا المعنى فإن إحدى رئتي الأردن تُفتح شرقاً، أو على الأقل هناك أملٌ بفتحها، ويمكن مراقبة تطورات الوضع فيها منذ فبراير/ شباط المقبل.
ربط الزيارة الأردنية بزيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو للعراق وعمان قد يكون صحيحاً ولكن ليس لجهة “الامر الأمريكي” بتشكيل ناتو عربي يجابه ايران، ولكن على الاغلب لصالح اغتنام الفرصة للتعامل مع العراق الجديد، وتدفئة جبهة عمان- طهران المتجمدة لصالح الرياض منذ حادثة القنصلية السعودية قبل نحو 3 سنوات.
تدفئة الجبهة الإيرانية تساعد عمان عملياً في تخطي رواسب وعوالق عقدة “الهلال الشيعي” لصالح امتدادها التاريخي والجغرافي والثقافي في الهلال الخصيب، وذلك ليس بالضرورة في علاقة مباشرة مع الإيرانيين، قدر ما هي بفتح كل القنوات مع دول الجوار التي لن تتمكن من تخطيهم ويبدو انها ترغب بالعودة للتعامل معهم كوسيلة للاعتماد على الذات من جهة، وللاستفادة من القنوات في مجالات إعادة اللاجئين وإعادة الاعمار من جهة ثانية، والميل بعيداً ولو بدرجات بسيطة عن “التخبط” في الجوار الجنوبي (السعودية) التي تقود معظم دول الخليج لازمات جديدة.
حديث الملك الأخير مع الصحافيين الأردنيين عن التوجه للعراق وسوريا، بالإضافة لشكر دول الخليج على وقوفهم السابق الى جانب الأردن، مع توجه رئيس الوزراء للبنك الدولي لتحصيل قرض يسدّ فيه ديوناً عربية في الغالب هي رسائل توحي بأن عمان تخطو خطوات مختلفة، خصوصاً وهي تعيد ترتيب رجال الصف الأول لديها وتقلل المحسوبين على الخليج العربي لصالح العروبيين والرئيس ذاته أحد هذه العناوين.
في المقابل، يفترض أن عمان قد تعلمت جيداً من سلسلة الدروس الأخيرة، حيث سياسة المحاور لن تفيدها طالما لم ترتبط بمصالح اقتصادية واستراتيجية وذكيّة، وهذا ايضاً ما ينبغي ان يحركها ليس فقط في العراق وسوريا بل وحتى مع الخليج وايران وتركيا وإسرائيل في المحيط المأزوم الحالي.
بكل الأحوال، في لقاء الملك ذاته، بات من الواضح ان الأردن لن يذهب لأي تعديلات دستورية سياسية من تلك التي يطالب بها الحراكيون كل خميس على الأقل في المرحلة الحالية، في هذه المرحلة وليهدأ الشارع ويُنزع زخمه الأكبر فعمان بحاجة لخطة انقاذ اقتصادية فكرية، وتلك لن تتحقق بمعزل عن محيط لديه تاريخ وحضارة كالعراق ثم سوريا بالدرجة الأولى.