اخلاص القاضي
لا يكتمل ثواب الصائم، إذا امتنع عن تناول الطعام والشراب فحسب، دون جوهر “صوم الجوارح”، ذلك الصوم الذي يبعده عن الأمراض القلبية كالحقد والغل والحسد والبغي، ويجنبه ارتكاب المعاصي، وقول الزور والكذب، والرياء والنفاق والنميمة والغيبة، ويحصن بالتالي من سمعه ونظره ولسانه، وفقا لما قاله علماء دين لوكالة الأنباء الأردنية (بترا).
وأشاروا إلى أهمية صوم الجوارح في تعزيز درجات الإيمان والتقوى وطاعة الله عز وجل، واكتمال فضيلة الصوم الجسدي والمعنوي، وتدعيم الروابط الاجتماعية بين الناس، وإعلاء شأن القيم والأخلاق الحميدة، والعودة إلى كتاب الله تعالى، وسنة نبيه، صلوات الله عليه.
وفي هذا الزمن الذي يشهد ثورة معلوماتية متسارعة، أكدوا أهمية صوم الجوارح ودوره في نبذ الإشاعة وتزوير الحقائق واغتيال الشخصية والتنمر وخطاب الكراهية والتجريح والتلميح المؤذي، والتعرض لأعراض الناس وإفشاء أسرارهم ونشر خصوصياتهم، وسرقة المعلومات وتبادلها لغايات سيئة، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر التطبيقات الذكية.
ولفتوا إلى أن كل ما تقدم من معاص، قد تبدو في شكلها سلوكيات اجتماعية سلبية ليس إلا، لكنها في المضمون خطايا تفسد الصيام حتما، وتضع مرتكبها في دائرة الآثم.
يقول سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبد الكريم الخصاونة لـ(بترا): إن الصيام أقسام، أولها، صوم العموم، وهو صوم الإنسان عن الأكل والشرب والشهوات، ولابد أن يقترن بصوم الجوارح، فقد قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له، و لا متاع فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسانته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار”.
وبهذا، يشير سماحته للقسم الثاني من الصيام، ألا وهو صيام الخصوص، الذي يمسك به المرء جوارحه عن اكتساب المعاصي وقول الزور والكذب والرياء والنفاق، متسائلا: ما نفع الصوم عن الأكل، بينما الجوارح لم تصم؟ فصومها، يعد بدرجة أعلى من صوم العموم.
أما القسم الثالث من الصيام فهو “خصوص الخصوص”، ويعني الصيام عن الطعام والشراب والشهوات، وصيام الجوارح، إذ يؤدي المسلم خلاله الطاعات، ويصوم بقلبه عن الأمراض القلبية، كالحقد والغل والحسد والبغي، وهذا هو إيمان الأنبياء والأولياء الصالحين، وفقا لسماحته.
ويعرج على أهمية صيام الجوارح، خاصة في هذا الزمن الصعب، الذي يشهد ثورة المعلومات وتبادلها عبر المنصات المختلفة، مشددا على إيصال الرسائل المختلفة مع الحفاظ على الأخلاق الحميدة والأدب الجم، ونبذ الإشاعة والنميمة، وعدم الخوض مع الخائضين، لأن تلك الآثام تدخل أصحابها النار.
ففي هذه الأيام المباركة، كما يواصل سماحته، علينا “الالتزام بالعبادات وتلاوة القرآن الكريم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ننجو أمام الله، ويقبل عملنا وصيامنا وصدقاتنا، وأن ندخل كما وعدنا الله سبحانه وتعالى إلى الجنة من باب يقال له باب الريان”.
ويتابع: “وهذا الباب لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا، أغلق”، مؤكدا أن أجر الصائم لا يكتمل إذا اقتصر فقط على الامتناع عن الطعام والشراب، دون صوم الجوارح.
ويشاطر استاذ الفقه والقضاء الشرعي في قسم الفقه، كلية الشريعة، جامعة آل البيت الدكتور محمد علي العمري، ما ذهب إليه سماحة المفتي، مكررا التأكيد على أهمية صَوْمُ الْخُصُوصِ، بكَفُّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ، وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ، عَنِ الْآثَامِ، وكذلك على ضرورة صوم خصوص الخصوص، بصوم القلب عن الهمم الدَّنِيَّةِ، وَالْأَفْكَارِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَعَمَّا سِوَى اللَّهِ عز وجل بالكلية.
ويلفت إلى أن الناس يتفاوتون في الصوم من حيث الالتزام، فمنهم من كان صومه مجرد الامتناع عن المفطرات المادية من طعام وشراب، ولكنه قد يطلق حواسه وجوارحه في المعاصي، فيخوض لسانه بالغيبة والنميمة والكذب، ويجول بصره للنظر إلى ما حرم الله، ويطرق سمعه لما حرم الله من فاحش القول، أو يسخّر جوارحه في أذية الناس والفساد والإفساد، وقد يكون فظا غليظا فاحشا في سلوكياته، وهو أبعد ما يكون عن الحلم والصبر، ولا يسلم الناس من لسانه ويده.
فعن أبي هريرة رضي ألله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ”، وهذا يدل بوضوح، وفقا للعمري، على عدم تحقيق الصائم للمقصد الذي شرع من أجله الصيام، وهو التقوى.
ويذهب إلى أن المسلم إذا لم يستطع تحقيق الصيام بمرتبته العليا “صوم خصوص الخصوص”، فيجب أن لا يكتفي بأدنى مراتبه، وهي الكف فقط عن شهوات الطعام والجسد، بل يجب أن يرتقي بنفسه في صيامه، فيكف حواسه وجوارحه عن المحارم.
ويشدد الدكتور العمري على أهمية تدريب المرء لنفسه، وخاصة، خلال الشهر الفضيل، وإعلائه لشأن الفضائل وحسن الأخلاق، إذ أن المدة الزمنية للشهر، كافية لذلك، منوها إلى أن الخسران المبين، هو أن يخرج العبد من مدرسة رمضان المبارك كما دخل اليها، دون أي تغيير نحو فضيلة التقوى.
من جهته، يقول الأستاذ في كلية الشريعة في الجامعة الأردنية، الدكتور محمد الخطيب: لاشك أن الصيام هو الامتناع عن كل ما حرمه الله تعالى، متسائلا: كم من صائم لم يأخذ من أجر صومه إلا الجوع والعطش، فيضرب هذا، ويشتم ذاك، ويقول اللهم إني صائم؟ويحذر، في سياق متصل، وبخاصة خلال أيام الشهر الفضيل، مما يُرصد عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يعبر البعض، تعبيرا لا يمت لخلق المسلم بصلة، كالألفاظ النابية والشتيمة والتنمر والسخرية وخطاب الكراهية والإيذاء المعنوي واغتيال الشخصية وسرقة المعلومات وتبادلها لغايات سلبية، مؤكدا أن كل ذلك يفسد الصيام، حتما.
ويزيد الخطيب، وهذا ينطبق أيضا على ما يتم تبادله عبر تقنيات التواصل الحديثة “كالواتساب”، ومثيلاته، فمثلا، من تصله رسالة عبرها، وبمجرد الشك بها، عليه ألا يرسلها لأحد، فمن ينشر الكذب في الآفاق هو آثم.
ويؤكد على ضرورة نبذ تبادل الغيبة والنميمة عبر “جروبات” تلك التطبيقات، وعدم تداول الصور، والنكات غير اللائقة، أو إطلاق الإشاعات واختلاق الأكاذيب، والتجريح والتلميح المؤذي، والتعرض لأعراض الناس، وإفشاء أسرارهم، ونشر خصوصياتهم، فأجر الصيام يكون بكليته، وليس بأجزاء منه، وفقا له.
ويحتاج المسلم في هذا الوقت، أكثر من أي وقت مضى لاعادة برمجة حياته، والقيام بواجباته الدينية، على الوجه الأكمل، والأعراض عن آفات منصات التواصل الاجتماعي “ولو مؤقتا”، والعودة إلى كتاب الله وسيرة الرسول الأعظم، وكبح جماح النفس، وكل ما يبعدها عن طاعة الله عز وجل، وفقا للخطيب.
ويشدد على أهمية الطاعة والتقوى خلال الشهر الفضيل عبر الصوم الكلي، بما فيه صوم الجوارح، حتى يكتمل الأجر ويثبت بإذن الله تعالى.