انجاز – نور بني عطا
شكلت مجموعة عمار الجنيدي «مسكوتٌ عنه» متوالية قصصية، أقرب ما تكون إلى الرواية، إذ إن هناك الكثير من المظاهر التي (شدت من أزر هذه المتوالية) تبعا لتقنية سردية جديدة ظهرت منذ سبعينيات القرن الماضي، مبدؤها يتلخص بأن يجعل الكاتب روابط بين قصص المتوالية القصصية، مثل: الراوي، وطبيعة الزمان والمكان، أو أية روابط تشد إزر المتوالية القصصية التقنية التي تبناها عدد من أدبائنا، الذين نذكر منهم: هند أبو الشعر، وسهير التل، وفخري قعوار، وغيرهم، ويقصد الكاتب في هذا تجنب الكتابة في خط مستقيم بتقليده الموروث؛ لأن ذلك كفيل بعزوف القرّاء عن مادة تعيد نفسها في كل مرّة، فكانت هذه التجربة محاولة للكتابة بأسلوب جديد، أظهرته قدرته على المماطلة السردية في محاولة منه للتمرد، والاغتراب عن كل تقليد.
بناء على ما سبق يمكن القول، بإن وحدة الرؤية هي من كانت تربط قصص مجموعة عمار الجنيدي «مسكوت عنه» على الرغم من أن القارئ من الممكن أن يجدها منفصلة شكلا، لتُقرأ كل قصة منها على أنها وحدة مستقلة عما بعدها وقبلها شكليا، ممّا جعل بناءها بناء حداثيا بالفعل، تحرر فيه من التراكيب اللغوية وتقريريتها الجامدة والنافرة، موليا اهتماما بالمضمون ودفعه في اتجاه الفكرة، للارتقاء بالمعنى إلى مستوى يليق بفلسفة الطرح.
فإننا ننطلق من وحدة الرؤية، بعدّنا إياها الرابط الذي شدّ إزر المتوالية القصصية «مسكوت عنه»، إذ رافقتنا منذ لحظة عبورنا العتبة النصية (العنوان) فأوحت بالتمرد، الذي تجلّى بالكشف عما سكت ويسكت عنه مهمشو المجتمع ومستضعفوه، المحاطين بالعلاقات المجتمعية المزيفة القبيحة، وما عجزوا عنه بالمقابل من إبداء آراء حتى بالإعجاب بما فعله المتمردون، الذين لم يقبلوا بحالهم، وحبسوا أرواحهم في سجن القناعة المصطنعة. ومرورنا بالإهداء الذي يؤشر إلى مضامين ملحة، في واقع يسوده الوجع الإنساني بكل تفصيلاته: فردية، أو جماعية. إنه استهلال ذكي لإدخال القارئ في جو النص منذ اللمحة الأولى إلى أن وصلنا إلى نهاية المتوالية، إذ تجلت ظاهرة الاغتراب في تشكيلها البعد الفلسفي الذي قام عليه بناء المتوالية، هذا البعد الذي تشكل لدى الكاتب بداية جرّاء تردي الأوضاع الراهنة، سياسيا واجتماعيا، وفكريا، وثقافيا، كما صرّح في تقديمه للمجموعة.
من هنا تأتي استجابة الفرد لهذه الظاهرة، بعد أن يسيطر عليه شعور العجز وعدم الانسجام مع الواقع، بنفي الذات عن المجتمع، ونفي المجتمع عن الذات. وهذا التحليل يشيع استعماله في وصف رد فعل المفكر والأديب بعد شعوره بالتجرد، وعدم الانسجام النفسي مع الواقع.
من حيث الشكل هناك تكثيف لغوي عميق يمنح النص التعددية التأويلية، على نحو يحقق اتحاد كاتب النص مع المتلقي، وهذا من أهم أهداف المغترب هو نقل الهم للمجتمع، لتصبح علاقة الكاتب والقارئ في النص علاقة تكاملية. تبدأ بأدوات الكتابة، وتنتهي باستجابة المتلقي الشعورية لمضمون النص، على نحو يستطيع معه الكاتب اختزال ما يمكن أن يتخيله القارئ، ويستطيع القارئ أن يتخيل ما يحس به الكاتب.
أما فيما يخص المضمون فيقدم عمار الجنيدي بأسلوب ساخر موقفه من الواقع، معلنا بذلك تمرده على السائد، من سقوط وانكسار وخيانة، محتجا على ما يحدث من هزائم سياسية واجتماعية، قاصدا من وراء السخرية جعل القارئ يتقبل فكرة النقد، وبالتالي تحرير وعي المجتمعات، بملامسته الواقع وعيوبه، وكشفها، ثم النبش في الذاكرة الجمعية؛ لإيجاد ما يقوّم المعوج فيها، مع تجنب تقديم الحلول المباشرة، والاكتفاء بجعل ما سبق نقطة تحول من الغفلة إلى الانتباه.
وتمثل ما سبق في العنوان أولا، انطواءه على مظهر من مظاهر الاغتراب الناقم، والتمرد الثوري، على حال طلبا لحال آخر، بداعي لفت الانتباه، فبعد التفاعل مع النص القصصي، وجدنا أن عمار الجنيدي قد أتى بكل ما هو مسكوت عنه ليسلط الضوء عليه، من خلال مشاهد قصصية تصلح كل منها حلقة لمسلسل من المسلسلات النقدية متعددة الحلقات التي تجمعها الفكرة العامة والمقصود، مشيرا بهذا إلى قضايا مهمة، وإن بدا هناك تحاملا متحفظا عليه في عرضه للقضايا الخاصة بالمرأة – المرأة التي وصلت الى مستوى عال من الثقافة والشراكة الحقيقية مع الرجل، المرأة التي تستطيع اتخاذ المواقف النبيلة، وتقدم ما يقدم الرجل على الحد سواء- إلا أننا من الممكن عد الأمر مبّررا أحيانا، بكثرة النماذج التي شوهت جمال المرأة وجمال أنوثتها، ومع هذا فإن القول الفصل بالطبع يعود إلى رؤية الكاتب التي تعتمد على تحليلات تتشابك مع مزاجه الفني في لحظة ولادة النص وانتقائية الطرح، التي تتقاطع مع نفسية الكاتب في ذات اللحظة، إلا أنني رغم تحفظي على هذه الجزئية، لا أستطيع إنكار نجاح الكاتب في كشفه شوائب مجتمعه، وفي إعلانه ثورة القلم والكلمة عليها.
فعالم الجنيدي المتمثل في المجموعة، هو عالم الشخصيات التي قررت استلاب نفسها من سياقها الاجتماعي الضاغط، في بحثها عن الحرية، ويتضح هذا من سعيه إلى الاستمرارية في كسر أفق التوقع لدى المتلقي، بجنوحه المتميز إلى التورية في نهايات الكثير من قصص المجموعة، وتركه بعضها بلا عنوان، على نحو يهدف بفعله إثارة المتلقي واستفزازه ليسعى إلى التغيير.
وتضم مجموعة «مسكوت عنه» القصصية ثمان وثلاثين قصة، تدور حول أمراض اجتماعية وسياسية هدامة. كالانتحار، والعزلة، والخذلان والانكسار، والحرمان، والكبت، والاضطرابات النفسية، فجاء سعى الجنيدي منصبا في نقدها، مغربا نفسه عنها، ومغربا إياها عن نفسه، معتمدا أسلوبا حداثيا قائما على التجريب والتمكن والاحتراف في كتابة القصة القصيرة، متمردا فيها على التقليد في الكتابة لتتمكن من استيعاب المحتوى ومضمونه، ولأن في هذا المقام يضيق المكان ولا يتسع فإننا لن نطيل في استعراضنا لقصص المجموعة كاملة، بل سنكتفي بالتعريج على بعضها باختصار، على نحو يعطي الفكرة حقها بالتأكيد.
ففي قصة «أوغاد» استعراض لمشهد من مشاهد الذل والهوان، تمثّل في تعامل مدير المدرسة مع مناظر القتل والتعذيب، وكذلك فيها إشارة أيضا إلى قوانين ما قبل الآلهة، القوانين العرفية، التي يعد كسرها مقصده الأساسي من اغترابه، وتجلى هذا في استبدال المدير اللحم بالسمك، كإشارة إلى تمسك الشخصية بقوانين التابو العرفية (إذ يشير السمك في الأساطير اليونانية إلى عادة تقديمه للموتى) وبهذا يتضح أن ردة فعل مدير المدرسة ما زالت مقيدة بقيود التابو، وإن في اختياره المدرسة والطلبة إشارة إلى ما غدا عليه العرب من حال، بأن أصبحوا مثالا للضعف والمدنية المسالمة.
يفصح في قصة «المحاولة الأخيرة لإلقاء قصيدة» عن اسم الشخصية وجاء بها تأكيدا على أن الخطأ مع السلطة لا تغفره صكوك غفران الأرض كلها. أما في قصة «الشاعر يدفع الثمن» ففي هذه القصة أيضا عودة إلى التابو في الأساطير اليونانية التي تعود إلى الشاعر المعروف « سوفليكس» ابن صانع السيوف الذي دفع ثمن قوله الشعر وهو من الطبقة الكادحة (فقول الشعر كان محكوما بالاحتكار لصالح طبقة النبلاء) حتى أنهم محرومون من أن يحفظوا ويرددوا الشعر، فكيف له أن يقوله؟ ليدفع الثمن بالنهاية بأن وجد مقتولا إلى جانب زوجة الحاكم من قبل شعراء المدينة، وليعاقب بذلك كل منهما على فعلته، الأول قوله الشعر وهو أحد رعايا المعبد مما تسبب بتقليل زيارة النبلاء له وتقليل عطاياهم، والثاني لتقليصه صلاحيات الكاهن واستبعاده من موقع المستشار.
وجاءت قصة «الدحنونة» لتعبر عن قبح العلاقات، وتجلي الخيانة فيها، وبعدها عن أي طهر ووفاء، وكذلك الأمر في قصة «هرولة» وقصة «حارس البناية» و» الأزعر» و»الذئاب المعدنية» و»المنحوس» و»الأنيق» و»عيد الحب» و»المتمرد» و»الحزام الأسود» و»توم وجيري» و»اللعنة» و» وجوه» و»عندما يكون الخروج مستحيلا» و»لماذا بكى المعلم» و»الختيار باع الأرض» و»الجلادون» وكذلك «اللوحة» و»لماذا انتحر سلامة» كلها قصص عرّج فيها على قضايا اجتماعية تشير إلى تردي وانحطاط المنحنى الأخلاقي في المجتمع، وكذلك الأمر في قصة «الخروج من حي التركمان» و»رصاصة واحدة تكفي».
وحملت قصة «اللعنة» بدورها مضمونا سياسيا، إذ تحدثت عن الهم القومي والوجود العربي بشكل عام، بالإضافة إلى أنها تناولت الوجود الإنساني، وصدمته بالواقع السياسي المرير. فهي تتحدث عن شخص غارق في همه القومي، ولأن أمته مهزومة ومستباحة، ولأن بلاده فقدت هويتها، قرر الهروب إلى الماضي كملاذ وخلاص، فلم يستطع تحمل مرارة الحاضر الذي يحفل بالهزائم، فصار يحلم أنه يعيش في زمن النصر والبطولة والفتوحات، ولكنه وعندما استيقظ من غفوته، رأى الواقع على حقيقته، فازداد بؤساً وشقاء، وأيقن بأن واقعه مصاب بلعنة الاحتلال.
وعليه، فإنه يتضح لنا أن ظاهرة الاغتراب تسيطر على جميع عناصر المكون السردي الخاص بعمار الجنيدي هذا؛ فجاءت الشخصيات تمثّل نماذج واقعية، من البسطاء والعاديين والمهمشين، وفي الوقت ذاته لا تستحضر من خلال موقف محدد، بل من عدّة مواقف، فشكلت نموذجا في حالة ما، ممّا جعل استحضارها متعلقا بالإحساس والوجدان، جرّاء ما كانت تعانيه في الواقع، فتعكس بدورها تجارب بشرية، استعرضها الكاتب في إطار قصصي رمزي، كان يحفل بالدلالات التي يحيل كل منها على تجربة واقعة ما، مما حقق التميز لعمله؛ بلجوئه إلى التجريب، وذلك بالتنقل من الخاص إلى العام في الدلالات؛ فهو يعرض نموذجا في القصة يشير إلى عالم في الواقع، معملا عنصر التشويق في عرض الأحداث وسردها في غطاء رمزي مشوق.
وبذلك نستطيع القول بأن، عمار الجنيدي قدم عملا متميزاً في مجموعته الموسومة بـ «مسكوتٌ عنهم» في ضوء رؤية فلسفية مهمة، عرض بفعلها رؤاه الخاصة، وتحليلاته للواقع بكل هفواته وعيوبه.