عزمي محافظة : مايسترو المختبرات وعضو مجلس قيادة الأوبئة المقال د.مهند مبيضين يقدم عزمي محافظة المولود في قرية كفر جايز بتاريخ 3/7/1953، نموذجاً في مسيرة الأكاديمي والسياسي المرن والمتزن، العالم أبن المختبر الوفي للدرس العلمي، المحتكم لقواعد الأصول العلمية الرصينة، والذي يتمتع بشبكة معارف واسعة ومعرفة بالناس، جراء التربية الحزبية المبكرة، التي تربى عليها، مطلع سبعينيات القرن العشرين. وهي تربية يفتخر بها، في حين ان بعض المسؤولين اليوم يحاولون طمس كل تجاربهم السياسية حتى وإن كانت مراهقة. لم يكن غريباً ان يتجه محافظة لخط الفكر القومي مبكراً، والذي كان يُميز اربد، ويُميز المرحلة، إذا كانت الناصرية تجتاح الإقليم، بعد ثورة تموز/يوليو 1952 في مصر. طفولته وشبابه الأول، حتى انتسابه لحزب البعث كان ضمن الزمن الناصري وشخصية البكباشي جمال عبد الناصر الذي كان جذاباً بما يكفي أن يجعله نموذجاً في مواجهة الغرب وقوى الاستكبار، وكان حزب البعث ثبّت قوته ونفوذه المتزايد في انتخابات 1954 في سوريا. آنذاك، غذت الناصرية والبعثية الاشتراكية والقومية أيدولوجية النهار السياسي العربي، أكثر من الإسلام حضوراً في المشهد السياسي العام. وأصبحت الناصرية التجسيد العربي لمناهضة الاستعمار. في هذا الجو العربي، الذي تخلله أواسط الخمسينيات ولادة حركة حزبية نشطة في الأردن توجت بحكومة سليمان النابلسي 29 تشرين الأول 1956م واستمرت حتى 10 ابريل 1957، لكن الحياة السياسية في الأردن دارت في فلك البعث والناصرية، والاشتراكية. وكان هناك محاولات من الحكم لتمرير البلد من ازمة ما بعد النكسة، التي كانت موجعة وخسرناها بلا سبب كما قال الشاعر نزار قباني:” نهايةَ الفكرِ الذي قادَ إلى الهزيمه “ “إذا خسرنا الحربَ لا غرابهْ لأننا ندخُلها.. بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابهْ بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابهْ لأننا ندخلها.. بمنطقِ الطبلةِ والربابهْ جاءت النكسة بحرب الاستنزاف، ولاحقاً تطور حركة النضال الوطني الفلسطيني وتطورت الأمور اردنيا لتنفجر عام 1970 في احداث أيلول. يومها كانت اربد تمور بالأفكار السياسية. ومدارسها أشبه بكليات كبرى. وكانت دمشق الشام معقل القومية والبعث، جهة أولى للأردنيين، وبدرجة اقل منها كانت بغداد لكن في كل ذلك الجو السياسي العربي والأردني تشكلت هناك ثقافة عزمي محافظة. يقول عزمي محافظة “درست في مدرسة كفر جايز، تخرجت من ثانوية اربد 1971، سافرت لدمشق للدراسة” وممن يذكرها معه في جامعة د مشق ممن سبقوه في الدراسة:” د. نايف الفايز” كان ابن صفي” ونشأت حمارنه. انهى عزمي دراسة الطب في ستّ سنوات، وكثير من الأردنيين كانوا يعيدون سنوات الطب، فالدراسة صعبة، لكن ولوجه حزب البعث كان قبيل دمشق، وكان ذلك بتأثير عاملين: العائلة حيث تعتبر اسرته من الأسر القومية التوجه، وهنا يحضر تأثير عمه المؤرخ الكبير علي محافظة، ثم هناك تأثره بأساتذته “تأثرت بأساتذتي، والمنطقة كانت تعيش موجه قومية، فأستاذي ومديري في المدرسة “زكي الروسان” نظمني من بيته، يصف محافظة ذلك” كان يأخذنا للبيت وأنا أول ثانوي غدوت بعثيّاً وصرت عضواً في الاتحاد العام لطلبة الأردن 1970.” البعث في مدرسة اربد هو قصة المعلم والطالب، المدير يجند الطلاب، والسجان يمرر الطعام للرفاق، والمدينة تمور بالوعي القومي، احداث أيلول تركت جرحا نازفاً، هنا يغادر عزمي اربد إلى دمشق ويدرس الطب، ويلتقي معه الأردنيين، من الرفاق، وينظم علاقة قوية معهم، تتجاوز كل علاقات الجامعات وكراهيتها، “كنت بعثياً في الأردن، شهدنا الحركة التصحيحية ورفضناها،” انتمى عزمي لتنظيم حركة 23 شباط “تنظيم صلاح جديد” وبقي في تنظيم صلاح جديد ومن ومعه الرفاق، ممن بقي على صلات قوية معهم، زياد مطارنه وامجد مدانات “كان معلمي” ومنير بقاعين وياسين الطراونه، ورياض حجازي وسليم النمري( بالشام والحزب). يرى محافظة أنّ السياسية تغلّف كل نهارنا اليوم، وأن الخبرة الحزبية والتنظيمية مفيدة لأي قائد إداري، وهو يقرّ بأن: السياسة لا تختلف عن باقي مراحل الحياة، جميع الإجراءات لها خلفيتها السياسية، والشخص الذي يكون مشارك سياسيّاً يساعده ذلك في الإدارة، والعمل الحزبي يعطيك شخصية مختلفة.” دمشق وجامعتها وحياتها وناسها، تركت عند محافظة أثراً كبيراً، وداعة ولطف كبيرين، ممزوجين بتواضع جمّ، ودهاء كبير، تخرج من جامعة دمشق عام 1977 بدرجة البكالوريوس في الطب، وبعد ثلاث سنوات من العمل كطبيب عام، أكمل دراسته في العلوم الطبية الأساسية في الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث حصل على شهادة الاختصاص في مناعة الأورام عام 1984، وتعين في الجامعة الأردنية في ذات العام. وبعد أربع سنوات أكمل الزمالة العلمية في جامعة ييل عام 1988 ومن محطتي ييل والامريكي ببيروت اتقن محافظة أهمية بناء الثقة والتقاليد والحفاظ على القانون الجامعي . بين عامي 1988- 2016 تقلّب رجل الاحياء الدقيقة، في المواقع العلميّة والإدارية في الجامعة الأردنية، كان عزمي فيها رجل يتقن الصمت، والتواضع والنكاف الهادئ، فارتضى بمواقع إدارية كما غيره من زملاء التعليم ومهنة الطب، لم يبدِ شدة أو تهاون، لكن كان حذراً، بدئاً بعمله رئيس قسم علم الأنسجة والأحياء الدقيقة والطب الشرعي (1992 – 1994)، ثم نائب عميد كلية الطب (1998-2006)، وعميد كلية الطب (2010 – 2013)، ونائب رئيس الكليات العلمية (2013 – 2016)، وفي كل تلك المسيرة ظلّ يدمن حياة المختبر العلمي، ومتابعة التشريعات العلمية، وتخرّج على يدية افضل طلاب تخصص المختبرات في الأردن، وهو يشغل اليوم منصب رئيس المجلس الأعلى للمركز الوطني لتطوير المناهج. وهو عضو لجنة اوبئة وطنية ضاقت حوصلة الحكومة عن استيعاب أرائه، ذلك أن الرجل كان شجاعاً، ومعه في استحقاق التقدير علماء اجلاء، منهم د نذير عبيدات وسعد الخرابشة، هؤلاء كانوا أشبه بمجلس قيادة ثورة كورونا، حيث أعاد هؤلاء القناعة بأن لدينا في الوطن رجال لديهم اخلاق، وان الإدارة العامة ولاّدة، هؤلاء ومن كان معهم ومن عمل معهم وما زال يعمل اليوم، أثبتوا أن الأردنيين هم من مختبر القطاع العام، وليس من سوق السكر على احترامنا له، فالدولة هي خط انتاج الخبرات وبيتها الأول. إلى أن تولّى الرجل منصب رئيس الجامعة الأردنية (2016 – 2018). في 14 حزيران 2018، كان محافظة رجل الطب، والمختبر، ونائب الرئيس السابق الذي يحفظ كل التعليمات الجامعية، وخلال رئاسته للأردنية انجز الكثير، وصنع تغييراً ملحوظاً , وكان يعافُ للمتحدرين في الجامعة سهولاً، لكن الثابت أن ذهاب عزمي محافظة وزيراً كان خسارة على الجامعة، حيث عُيّن وزيراً للتربية والتعليم، وفي 11 تشرين الأول 2018 وتمت إعادة تعيينه وزيراً للتربية والتعليم ووزيراً للتعليم العالي والبحث العلمي، إلى أن استقال من هذا المنصب في الأول من تشرين الثاني عام 2018. حكومة الرزاز (4/6/2018- 12/10/2020) التي اخذت الرجل من افضل المواقع الجامعية، حاولت البقاء عليه بعد حادثة غرق البحر الميت (أكتوبر 2018،) آنذاك عرض المحافظة على الرزاز وجوب الاستقالة مباشرة، كان ذلك بعد اجتماع السياسات الذي اعقب الحادثة، فأصر الرزاز على بقائه، وأيده بذلك رجائي المعشر الذي قال :”إننا جئنا كفريق”، آنذاك ابقى الرزاز على رفيقه، حتى آخر رمق، ولكن النهاية كانت بخروج محافظة من الحكومة مع وزيرة السياحة لينا عناب، والثابت أن الرزاز دافع عن رجال حكومته وظلّ وفيّاً لهم، فعوض لينا عناب لاحقاً بمنصب سفير الأردن في اليابان: وعرض على محافظة العودة للجامعة رئيساً لكنه رفض، ليقبل بتاريخ 3/9/2019 بشيء أقل وجعاً للرأس، ولكنه مهم جداً، وهو رئاسة المجلس الأعلى للمركز الوطني لتطوير المناهج . خلفاً لعدنان بدران، بعد ملاحظات كبيرة ومعركة عاصفة حول المناهج، اخفق بدران في إدارة ملفها. لكن محافظة المهم لطلابه، من الذين درسوا على يديه، لم يكن من طبعه المناكفة السياسية او التشبث في الموقع، وهو يوقن بأن قراره القبول بمنصب او الخروج منه، مسألة تخضع لقرار الدولة، إلا أن الرأي العلمي الذي يميزه حضوراً في المشهد العام اليوم، يجعل الناس يشيرون إلى كلامه، وكذلك غالباً ما يوجه جلالة الملك بتطبيق بعض آرائه وإن كانت خارج المسار الذي تريده الحكومات. لقد اعاد محافظة حضوره وانتاجه الذاتي سياسياً ووطنياً خلال جائحة كورونا، جراء صدقه والتزامه العلمي، وعدم مجاملة الحكومات ووزراء الصحة، في موضوع الأوبئة، ليؤكد أن العالم والأكاديمي المحصّن بتجربة سياسية، قادر على الحضور الملفت في أي وقت، وأن المعرفة تنتصر في النهاية. عزمي الهادئ، شكلاً، لكنه اليقظ عقلاً والمليء مضموناً، بات اليوم اكبر بكثير من رئيس جامعة سابق او وزير اسبق؛ لأن الناس يثقون برأيه العلمي، على الرغم من أنّ أقرانه في المهنة هم مثله، وربما افضل، لكنه رفض الاستلام، لأن يركنه السياسي التنفيذي جانباً. هو مايسترو المختبرات الأردنية في مستشفى الجامعة، وهو الذي اذا اكتشف خللاً في نوتة الحكومة الموسيقية، لا يقبل بالعزف بشكل نشاز، فيصوب اللحن، حتى وإن كان ذلك مكلفاً.