عمان.. حكاية مدينة سكنت روحي
إنجاز-فراس الحديدي
لا بدّ من العودةِ مرّةً أخرى للحديث عن عمان، عن ذلك الجزء منها الذي سكنتُه طويلاً، عن الجاردنز ببيوتها القديمة التي تهمس بقصص الماضي، وشارع الجامعة الصاخب بألوانه المتداخلة وأصواته المتنوعة، وجريدة الرأي، ذلك الصرح الشامخ الذي شهد ميلاد كلماتي الأولى كصحفيّ يخطّ أحلامه على ورق.
وصولاً إلى جبل اللويبدة بشوارعه الضيقة المتعرّجة، حيث الأزقة تروي حكايات الزمن الجميل، والبيوت القديمة تفتح نوافذها على عبق التاريخ. إنه المفتاح لفهمي، والمدخل الصحيح إلى عالمي، بوابةٌ سحريةٌ تفتح على ذكريات لا تُمحى. بغير الحديث عن هذه الأماكن، تبقى الصورة غير مكتملة، وكأنّها انتُزعت من إطارها، تائهةً في فضاء الذكريات.
هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قلبِ حكاية؟ شقتي القديمة كانت تلك الحكاية، حكايةٌ محفورةٌ في جدران الزمن. ليست حكاية طفولتي، بل حكاية بداية حياتي الزوجية، حيث تفتّحت زهرة الحب في ربيع العمر، حكاية الحبّ والاستقرار. لا أحاول رشوتكم بتشبيهٍ بليغ، لكن صدّقوني، بهذا التشبيه لا أظلم الحكايات… وإنّما أظلم شقتي، شقتي التي احتضنت أحلامي وآمالي.
الذين سكنوا عمان، وتغلغلوا في شوارعها، يعرفون كيف تفتح لهم المدينة ذراعيها من حيث لا ينتظرون… بوابةٌ حديديةٌ قديمةٌ تنفتح على عالمٍ ساحر، ويبدأ الإسراء على أصوات الباعة المتجولين، ينادون على بضاعتهم بأصواتٍ شجية، وبائعي الكعك يفوح شذى خبزهم في الأزقة، وأصوات السيارات تنسج لحنًا عصريًا في قلب المدينة القديمة، ويمتزج كلّ ذلك برائحة الياسمين المنبعثة من شرفات البيوت القديمة، فتُضفي على المكان سحرًا خاصًا.
شجرة الليمون تحتضن ثمارها الذهبية في إحدى الشرفات، والياسمين يتسلّق جدران البيوت كعاشقٍ يتشبّث بمعشوقته، والعصافير تغرد على شجرة التين الكبيرة في الحديقة المقابلة، فتُزين سيمفونية الحياة.
أصوات بائعي الخضار تملأ الشارع في الصباح الباكر، ينادون على بضاعتهم الطازجة بأصواتٍ مرحة، وأصوات أطفالي يلعبون في الحديقة تُسمع في المساء، ضحكاتهم تملأ المكان بهجةً وسرورًا. أولادي الثلاثة، ثمار حبي وزواجي من امرأة صالحة، هم أجمل هدايا عمان لي، هدايا لا تُقدّر بثمن.
القطط تتجول بحرية في الأزقة، كأمراءٍ يمتلكون المكان، تبحث عن الطعام والدفء، وكأنها تملك هذه المدينة.
الأدراج الإسمنتية تصعد وتصعد، كأنها تُريد الوصول إلى السماء، والسيارات تُسرع في شارع الجامعة ذهاباً وإياباً، كالنجوم المتسارعة في الفضاء، لا أحد يسألُها إلى أين؟ فالكل في عجلةٍ من أمره.
جريدة الرأي.. يا لها من مكان! ذاك المبنى العتيق الذي يحكي قصة الإعلام في الأردن، شهد خطواتي الأولى في عالم الصحافة، حيث تعلمتُ فن الكلمة، أذكر رائحة الحبر والورق، رائحةٌ تُنعش الروح، وصوت آلات الطباعة القديمة، صوتٌ يدقّ في ذاكرتي، وأذكر الزملاء ووجوههم الباسمة، كنّا عائلةً واحدة. بدأتُ في الإخراج الصحفي، ثمّ انتقلتُ إلى التحرير في دائرة العربي والدولي، وكم كنتُ أشعر بالفخر وأنا أرى كلماتي تنشر على صفحات “الرأي”، الجريدة التي لا تضاهيها جريدة، منارةٌ إعلاميةٌ تُضيء الطريق.
في هذه المدينة ولدتُ، وحلمتُ، ونطقتُ كلماتي الأولى، وفي شقتي في الجاردنز عشتُ أجمل سنوات حياتي. كان اصطدامي بالحياة قدراً يومياً، كنتُ إذا تعثّرتُ أتعثّر بابتسامة زوجتي، فتُزيل عنّي كُربة التعثّر، وإذا سقطتُ أسقط على ضحكة أطفالي، فأنسى ألم السقوط.
هذه المدينة استحوذت على كلّ مشاعري، أسرت قلبي بروعتها وسحرها.
شقتي.. ببرندتها الصغيرة المطلة على الشارع، كانت هي روح المكان، نافذةٌ على العالم، أذكر كيف كنت أقضي ساعات طويلة أجلس فيها أراقب الناس والحياة تمرّ من أمامي، كأنّي أشاهد فيلمًا سينمائيًا. وجيراني الطيبون، أهل عمان بكل كرمهم وطيبتهم، كانوا جزءًا لا يتجزأ من حكايتي في تلك الشقة، أهلٌ للكرم والجود.
أذكر أيام الجمعة، وكيف كنّا نذهب إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة، ثمّ نجلس بعد الصلاة مع الجيران نتبادل أطراف الحديث ونحتسي القهوة، في جلسةٍ حميميةٍ تُشعرنا بالألفة والمحبة. وكان من بين هؤلاء الجيران رجلٌ كبير يسكن في الشقة الأرضية، شقةٌ جميلة بحديقة صغيرة، رحل عن دنيا الفناء منذ زمن، لكنه بقي حيًّا في ذاكرتي، ذكراه عطرةٌ في قلبي. وكان هناك أيضًا جاري حابس الجراح، زميلي في الرأي، صحفيّ في دائرة الرياضة، وأخوه رسمي الجراح، الصحفيّ أيضًا وزميلي في دائرة الثقافة والفنون، ومحمد عادل الرائع الخلوق. كنّا نجلس بعد الصلاة ونتبادل القهوة والتمر والسجائر بكل جمال عمان الهادئة، في جوٍ من الودّ والصفاء.
وفي جبل اللويبدة، حيث الأجواء البوهيمية والفنية، كان لي صديقٌ عزيزٌ اسمه عبد السلام الشوبكي، أتذكر تلك الأمسية التي تناولنا فيها العشاء في مطعم تشي تشي، كنتُ أمرّ بأزمةٍ شديدة، ووقف معي وقفة رجال لا تُنسى، أخفف عني وطأة الهموم.
أستطيع الآن، أن أغمض عيني وأعدّ أثاث شقتي قطعةً قطعةً، وأستعيد ذكريات الحب والسعادة المحفورة على جدرانها، جدرانٌ شهدت على أجمل أيام حياتي.
أستطيع أن أغمض عيني، وأستعيد، بعد كلّ هذه السنين جلسة أمي في الصالون، أذكر زيارتها لي في شقتي، وكيف كانت تملأ المكان بدفئها وحنانها، وكيف كنتُ أشعر بالسعادة وأنا أراها سعيدة لأجلي، سعادةٌ لا توصف.
على الطاولة الخشبية الموضوعة في غرفتي كتبتُ قصصي الأولى، وخططتُ لمستقبلي مع زوجتي وأولادي، طاولةٌ صغيرةٌ حملت أحلامًا كبيرة.
هذا المكان ترك بصماته الواضحة على كتاباتي، فأصبحت عمان حاضرةً في كلّ حرفٍ أكتبه.