فكرة البطولة عند المؤرخ سليمان الموسى * د. عمر الخواجــا في كتاب (صور من البطولة) يشرح المؤرخ القدير سليمان الموسى رؤيته عن البطولة والأبطال حيث يقول في السطور الأولى من الكتاب الطبعة الثالثة الصادر عن دار ورد للنشر والتوزيع بدعم من وزارة الثقافة الأردنية 2011 : (البطولة هي العمل المتفوق غير العادي الذي يتّسم بالجرأة الخارقة ويغلب عليه طابع التضحية والفداء، أما البطل فهو الانسان الذي يرتفع عن غيره بالبذل والعطاء ونكران الذات، كأن يجود بنفسه من أجل وطنه وأحبائه، أو يكرس حياته للقيام بمهمة سامية لا ينتفع منها هو بعشر معشار ما ينتفع بها المجتمع… ص 22)… تتجسّد البطولة عند مؤرخنا الكبير (سادن التاريخ الأردني) كقيمة وطنية عُليا ترتقي وتقترب من القداسة فهي تُمثّل حافزا وطنيا للانتماء والتضحية والفداء، وهي تظهر في الأوقات الصعبة التي يعاني فيها الوطن من هجمات الأعداء وطمع الغادرين بحيث تساهم في ردّ كيد المستعمرين والمحافظة على وحدة الامة وحريتها واستقلالها، فالبطولة عند الموسى تستحقّ أن تُخلد من خلال سطور التاريخ الوطني وأن تدخل في إطار الأدب والثقافة والتراث، فهو يكتب عنها مُشكّلا صورا فنيّة مميزة دون مبالغة أو تهويل أو انتقاص فهو بقدرته الأدبية وثقافته الواسعة وانتمائه الوطني ظهر في كتابه (صور من البطولة) كاتبا ومؤرخا وأديبا نسج من خيوط التاريخ الأردني عامة والثورة العربية الكبرى خاصة ذاكرة أدبية تستحق الاهتمام والدراسة والإشادة. للمؤرخ الكبير سليمان الموسى كثير من الكتب التي تتناول التاريخ الأردني ولكنّ كتاب(صور من البطولة) يتناول فكرة البطولة من جوانبها المتعددة فهو كتاب يضم سيرة حياة عشرة أبطال كرّسوا حياتهم من أجل معركة التحرر والاستقلال، ويظهر الكتاب في طبعته الثالثة ضمن سلسلة الأعمال الكاملة للمؤرخ الموسى حيث يبدأ بمقال للدكتور علي محافظة بعنوان (سليمان الموسى: المؤرخ العصامي) ثم مقدمة الطبعة الثالثة (ما قاله بعض النقاد قبل نصف قرن تقريبا) ثم مقال للدكتور عصام سليمان الموسى بعنوان (كلمة لا بد منها) ثم سيرة حياة سليمان الموسى (حزيران 1919 حزيران 2008) ثم (الأوسمة والجوائز التي حاز عليها سليمان الموسى) ثم (قالوا في سليمان الموسى بعد رحيله) ثم مقدمة الطبعة الأولى ثم مقدمة الطبعة الثانية ثم مقال للمؤرخ بعنوان (البطولة والأبطال) سليمان الموسى (حارس الذاكرة الأردنية) سخّر قلمه سلاحا في وجه النسيان وذاكرة تُخلّد أبطاله بحروف من حبر وأدب فقد كتب في (صور من البطولة) عن الزعامة والقيادة ذات الأهداف السامية والرؤية الشمولية والعزم والتصميم في شخصية الشريف الحسين بن علي (الزعيم الذي تولي قيادة أول ثورة تحررية شـاملة باسم جميع العرب الآسيويين في تاريخ العرب الحديث فاستطاع بعمله هذا أن يخرج بحركة التحرر العربي من نطاق الأماني والنظريات إلى واقع التنفيذ والحقائق الملموسة.. ص 25)وكتب مؤرخنا الكبير عن بطولة قائد المهمات الخاصة (رجل الطليعة المقدام) الشريف ناصر بن علي رجل المهمات الخطيرة التي تحتاج لصفات قيادية لا تتوفر إلا فيمن كانت البطولة جزءا أساسيا من شخصيتهم العسكرية والإنسانية حيث أورد مؤلفنا قول لورنس في كتابه المشهور أعمدة الحكمة السبعة عن الشريف ناصر (… كان لناصر وهو أمير كبير في موطنه خيمة كبيرة يستقبل فيها الزائرين، لقد هجر الراحة والدعة والزعامة الطبيعية في مدينته وبين أهله، والقصور ذات الحدائق الغناء التي نشأ وعاش فيها، وها هو يقضي الأعوام في البراري مقاتلا، دائما في الطليعة يُنتدبُ لكل مهمة عسيرة شاقة… ص 76) وكتب(سادن التاريخ الأردني)عن البطولة حينما تتجسّد في شخصية الاعلامي المتخصص في الدعوة للثورة بكلامه وأفكاره وصفاته وافعاله الشاعر الفارس المحبوب الشريف علي بن الحسين الحارثي المدافع عن الثورة والداعية المخلص للقضية القومية العربية حيث استخدم حبّ الناس له في الدعوة لفكرة الثورة العربية وجذب المؤيدين والأنصار لها من خلال شخصيته التي تمتاز بحسن الطلّة والهندام والقوة الجسدية وسرعة الحركة والقدرة على اتخاذ القرارات الصعبة (… ليس الحارثي سوى نموذج ترى في سيرة حياته مثالا للروح القومية التي دفعت كل واحد ممن اشترك في الثورة للمغامرة بالكثير واحيانا للمغامرة بالحياة نفسها… ص 94)… وبكل ما لديه من انتماء وحبّ للوطن سجّل مؤرخنا بطولة زعيم القبيلة مُمثّلة في الشيخ عودة أبو تايه زعيم قبيلة الحويطات الذي امتاز بالشجاعة والفروسية وأضاف للثورة العربية حين انضم لركبها تأييدا عشائريا مهما سـاهم في فتح طريق القبائل أمام جحافل الثورة كي تمر بدعم ومساندة من الزعيم القوي عودة أبو تاية (… وهكذا كان مجيء عودة الى الوجه وانضمامه للثورة عاملا حاسما ونقطة تحول خطيرة إذ كان الزعيم العربي الوحيد الذي يستطيع أن يساهم مساهمة إيجابية في نجاح العمليات العسكرية في منطقة معان التي كانت منطقة نفوذ الحويطات في ذلك الحين… ص 101) اذا هو الشخصية التي حملت الطباع العربية من إكرام الضيف ونجدة الملهوف وحماية اللاجئ ولكنّه زعيم ببعد قومي يرفض الاحتلال ويفتخر بانتمائه العربي بحمية وشجاعة دون تردد أو خوف (…وتبدت عقيدة عودة القومية على حقيقتها عندما اعتدى الفرنسيون على استقلال سوريا ودخلوا دمشق فقد رفع القائممقام الموجود في معان العلم الفرنسي على دار الحكومة ولكن عودة نزع ذلك العلم وألقى بالقائمقام في السجن ورفع العلم العربي مرة أخرى… ص 107)… الكاتب والمؤرخ الأردني الكبير كتب عن بطل القومية والشعور الوطني (الشاب المتحمس الشهيد ) فؤاد سليم ولقد أورد المؤرخ الموسى ما يدلّ على ذلك الحماس المتقد في صدر الشاب البطل للمشاركة في غمار المعركة والمساهمة في دحر الاستعمار وكنس الاحتلال (… رحب الأمير فيصل به وألحقه بعمل كتابي في قيادة الجيش ولكن لم تمض على ذلك أيام حتى جاء فؤاد إلى القائد يقول أنه لا يطيق البقاء بعيدا عن جبهة القتال وانه لم يغادر لبنان لكي يقنع بالبقاء في الخيام وحقق القائد امنية الشاب المتحمس فألحقه بمفارز التدمير التي كانت تعمل ناشطة في مهاجمة المراكز التركية المنشرة على طول سكة حديد الحجاز وتدمير الجسور ونزع القضبان الحديدية وزرع الألغام لنسف القطارات العسكرية… ص 116) لقد رأى المؤرخ في شخصية فؤاد سليم مثالا للبطولة التي تتجلّى بالقول والفعل (.. وبهذا أعطى فؤاد وهو الدرزي المثل الصادق على الوطنية الشريفة الصادقة التي تعلو على العنعنات العصبية والدينية… ص 125) وواصل مؤرخنا رسم صور البطولة عند شخصيات كتابه المميز فكتب عن أحمد مريود البطل صاحب التجربة السياسية في الانضمام لحزب العربية الفتاة ردا على حزب تركيا الفتاة ثم تحولت جمعية الفتاة الى حزب الاستقلال العربي… أحمد مريود الذي استشهد مقاتلا دون أن يهرب أو يحاول النجاة بنفسه فسطّر مثالا واضحا على التضحية والصمود والاستبسال بعد أن مثّل التجربة السياسة التي ساهمت في حشد الطاقات العربية والمناداة بضرورة التحرر من التبعية والاستعمار وتنمية الشخصية العربية في مواجهة محاولات طمس القومية العربية وسحق تطلعاتها ومن أقوله المأثورة التي أوردها المؤرخ الموسى والتي ترسم بشكل واضح صورة البطولة (… نحن طلاب استقلال وحرية ولا نرضى سيادة اية دولة من الدول لا فرق بين إنجلترا او فرنسا او تركيا… ص 139) وبحرص كبير يمثل خبرة المؤرخ وقدرته على التحليل كتب الموسى عن صورة البطولة التي تتجلى في قوة التنظيم العسكري حيث مثل البطل مولودمخلص القدرة الكبيرة على الاعداد والتنظيم والانضباط وقد أضافت هذه المميزات للثورة العربية إضافات ساهمت في انتصارها وحشد طاقاتها (… كان مولود كضابط نظامي يدرك أهمية وجود قوة نظامية تدعم القوات البدوية لذلك نرى أنه بادر الى تشكيل نواة القوة النظامية في جيش فيصل وقد بدأ أولا بخمسين رجلا من الجنود الذين كانوا يقعون في الأسر ومن أبناء البدو أنفسهم وكان بطبيعته كثير التشدد في تطبيق النظام فبذل كل جهده في تدريب جنوده دون هوادة حتى تكونت لديه قوة مدربة ذات كفاءة عالية… ص 149) وللشهداء الابطال مكانة خاصة لدى مؤرخنا الخبير فالشهادة من أجل الحرية والوطن تمثل أوضح صور البطولة وأقدسها فهي عند الشهيد البطل سعيد العاص تتمثل في الاعتداد بالنفس والاقبال على التضحية في سبيل الوطن والأمة دون ان ينتظر أي مقابل يقول الموسى عنه (… حدثني من عرفه أنه كان شديد الاعتزاز بنفسه يسير دائما مرفوع الراس منتصب القامة لم يحدث ان سأل صديقا ان يمد له يد العون ولو بات على الطوى ولكنّ أصدقاءه كانوا يعينونه على شؤون حياته دون ان دون ان يجرحوا كبرياءه وكان يعرف حقيقة الخدمات التي أداها لبلاده ويقول لخلصائه أن أمته التي تهمله اليوم لا بد انها ستكرم ذكراه فيما بعد… ص 174) (… لقد قضى العاص شطرا كبيرا من حياته متنكبا بندقيته متنقلا من معركة الى معركة يطارد الموت في مقارعة المستعمرين ويرفع لواء الحرية العربية حتى خرّ في ساحة الجهاد مضرجا بدمه الزكي فوق الأرض التي أحبها وأنزلها منزلة التقديس… ص 163) وجسد كاتبنا صورة مشرقة عن الشهادة التي ترفع من قدر ابطالها وتخلد سيرتهم كما تجسّدت في بطولة أول شهيد أردني على أرض فلسطين الشهيد البطل كايد المفلح العبيدات حيث ظهر البطلشخصية مهيبة صاحب رأي وقرار وعزم وتصميم قاد عددا من أبناء عشيرته للهجوم على معسكرات الانجليز والمعسكرات اليهودية في بيسان (… وسقط البطل شهيدا على الأرض ووقع جواده معه وأصابت نار الرشاشات أيضا أخاه فندي المفلح وابن أخيه سلطان جبر المفلح كما أصيب فندي القفطان من قرية الرفيد ومن أبناء عمومة الشيخ كايد وهؤلاء هم الشهداء الأربعة الذين سقطوا في ذلك اليوم المشهود ورووا بدمائهم تراب فلسطين… ص 182) هؤلاء هم ابطال سليمان الموسى والذين شارك معظمهم في مراحل الثورة العربية الكبرى بأشكال وصور مختلفة وتركوا من خلال سيرتهم العطرة نماذج للبطولة والفداء والتضحية فهم جاؤوا من مختلف مناطق الجغرافيا العربية يقودهم الشعور القومي والوطنية الصادقة والرغبة الاكيدة بالحرية والاستقلال إن كان الموسى (شيخ المؤرخين) قد تحدث عن أبطاله التاريخيين فإننا كقراء ونقّاد واعلاميين لا يمكننا سوى أن نؤكد على بطولة المؤرخ الموسى في تصديه الشجاع لفكرة دراسة وتبويب التاريخ الأردني… في كتاب(صور من البطولة) ظهر المؤلف إلى جانب شخصياته البطولية كاتبا مميزا في التركيز على أسباب ومبررات ودوافع اندلاع الثورة العربية الكبرى والرجوع لكم هائل من الوثائق ذات العلاقة التاريخية وتبويبها واستنتاج كثير من النتائج المنطقية ومواجهة وتفنيد بعض الادعاءات التي حاولت إخفاء وتغييب الدور البطولي لقادة الثورة العربية في التخلص من تبعات وظلم الدولة العثمانية التي عمدت بشكل كبير لمناهضة ومحاربة الطابع العربي على امتداد رقعة هذا الوطن الكبير… يتميز المؤرخ سليمان الموسى بعشقه الواضح للتاريخ وعاطفته الصادقة في محاولة التركيز على نقاط مضيئة اثناء بحثه المتخصص في تسجيل صفحات التاريخ الأردني والتركيز بشكل كبير على أحداث الثورة العربية الكبرى والتي ساهمت في استنهاض الروح القومية العربية وفي مواجهة محاولات العنصر التركي سحق الروح العربية وطمس معالمها ومحاربة لغتها وثقافتها الراسخة… لقد تناول كاتبنا من خلال مؤلفاته التي زادت عن الأربعين كتابا عددا من المجالات التي تدلّ على سعة اطلاعه وعمق ثقافته وغزارة أفكاره وشدة عزيمته وحدة قلمه وتميّز قريحته الأدبية فيمكننا القول انه قد تناول أحدث الثورة العربية بتميز كبير في العديد من مؤلفاته وكتبه التاريخية كما كتب في التاريخ الأردني بشكل عام متناولا تأسيس إمارة الأردن والظروف التي أحاطت بنشوء الدولة الأردنية الحديثة.