فهد الفانك.. قيمة وقامة
كتب : طارق المومني
استئذان بالانصراف.. تلك الرسالة التي فهمتها من طلب الزميل العزيز الراحل الدكتور فهد الفانك يوم الأحد في الحادي عشر من شهر آذار الجاري، بالتوقف عن الكتابة مؤقتاً لعارضٍ صحي ألم به أستوجب متابعة طبية له تحول دون أن يواصل أداء رسالته في الكتابة اليومية التي لم ينقطع عنها في «الرأي» لمدة تجاوزت 40 عاماً، ويبدو أنه كما نحن استشعر أن مقالته التي كانت في ذلك اليوم المعنونة «حكومة ظل/ قطاع خاص» ستكون الأخيرة التي خطها قلمه الذي تميز بالجرأة والحرفية والمهنية العالية غير آبه بمن يمدح أو يذم إلا بما يصحح معلوماته أو يخدم فكرته، قبل أن تخطفه يد المنون ويغادر الدنيا صباح أمس بعد أن ترك ميراثاً مهنياً مميزاً وشعلة لا تنطفئ، من الإخلاص لمهنة الصحافة والاعتزاز بالانتماء لها وقناعاته التي كان يحاجج بها الكافة، بعيداً عن النفاق أو التزلف.
بقي الراحل الفانك مواظباً على كتابة مقالته اليومية في زاوية «رؤوس أقلام» على الصفحة الأخيرة في «الرأي» لمدة طويلة وعلى مدار الأسبوع، وحتى عندما كان يغادر إلى خارج الوطن كان يحرص بتأمين مقالات طيلة فترة غيابه التي كانت تمتد أحياناً لشهر أو أكثر إيماناً منه بقدسية الكلمة ودوره في خدمة الوطن والمواطن، فكان صاحب كلمة جريئة مؤمناً منذ وقت مبكر بضرورة الإعتماد على الذات لتحرير القرار الاقتصادي وبالتالي السياسي، يثير الكثير من ردود الفعل في غير اتجاه ومكان، شديد النقد لسياسات الحكومات الاقتصادية واتهامه لبعضها بالضعف أحياناً لعدم إتخاذها قرارات تصب من وجهة نظره في خدمة الاقتصاد الوطني وتصحيح اختلالاته ومحابات قطاعات تحت الضغط لكسب الشعبية على حساب مصلحة الاقتصاد وخزينة الدولة، وكانت دائماً تثبت صوابية رؤاه ولم يمضِ يوماً إلا وكانت مقالاته تثير ردود غاضبة، غير أن الجميع يتفق على حرفيته ودقة معلوماته في مقالاته المختصرة والمباشرة «خير الكلام ما قل ودل» والتي تنطلق من رؤيته ورأيه الذي يوظفه فيها ويستخدم الرقم لإثبات صحة ما يدعو له فيكون الإقناع من المتلقي والقارئ.
أبو جهاد.. أحد أهم الصحفيين والكتّاب في تاريخ الأردن، وأهمهم كذلك عربياً، وصورة استثنائية شكل مع الزميل العزيز طارق مصاروة الذي ندعو له بالصحة والعافية وطول العمر، والذي استئذن مبكراً بالانصراف وغابت زاويته «كل يوم» منذ نحو تسعة أشهر، ثنائياً مميزاً يطل يومياً على الأردنيين بآراء وتحليلات اقتصادية وسياسية يتفق معها جمهور القراء أحياناً ويختلف أخرى،
وأرسى قواعد عظيمة في الجدية والاستقلالية والمهنية الرفيعة والكبرياء والشموخ، وفي اللقاءات مع كبار المسؤولين عندما كان يلتزم الصمت، يصر الحضور على سماع وجهة نظره فيقول سأتحدث بشيء لا يعجبكم وكان حديثه دائماً قاسياً على المسؤولين ويتقبلونه بسرور ويعرفون أنه يتحدث بعيداً عن أي أجندة خاصة.. وكان يطرب له وزراء المالية الذين يجدون في كلامه دغدغه لعواطفهم وينسجم مع رؤاهم لإصلاح الاقتصاد.
كان سقف مقالاته عالياً بموضوعية ومهنية وحرفية، ولم يترك لرئاسة التحرير مجالاً لمنعها، بإستثناء مقالين للضرورة المهنية منذ أن تسلمت رئاسة تحرير «الرأي» العزيزة قبل «33» شهراً وكنت والصديق نائب رئيس التحرير ومشرف المقالات الأستاذ خليل الشوبكي الذي استئذن مبكراً كذلك بالمغادرة وندعو له بطول العمر، نحتار كيف سنبلغ «أبو جهاد» بمنع نشر المقال، فكان الزميل خليل يتولى المهمة ويقنع الراحل العزيز بوجهة نظرنا تجاه مقاله، فيقبل على مضض بعد أن يسمعنا ما يجب أن يقال في هذا المقام، ويستبدله بآخر وكان يتفوق على نفسه عندما يكتب بالسياسة.
خسر الوطن وخسرت «الرأي» كاتباً كبيراً قيمةً وقامةً لكنها إرادة الله، ندعو له بالرحمة والمغفرة جزاء ما قدم وأعطى، ولذويه وآله ونحن منهم الصبر وحسن العزاء وإنا لله وإنا إليه راجعون.