بقلم: جهاد الأحمد
فجعنا صبيحة الخميس بالناعي ينعى أحد القامات العلمية الأردنية والعربية، الأستاذ الدكتور عبدالرحمن شعبان العطيات الرجل الفذ خلقا وعلما وبرا ونزاهة، فلا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا على فراقك يا ابا أنس لمحزونون.
يرحم الله أستاذنا الكبير الأستاذ الدكتور عبدالرحمن العطيات، المدير المؤسس للمختبر الجنائي الأردني في مديرية الأمن العام، والأستاذ صاحب المدرسة العالمية في الكيمياء التحليلية الجنائية، وعميد شؤون الطلبة ثم عميد البحث العلمي في جامعة اليرموك، ورئيس جامعة مؤتة الأمين المؤتمن الذي ظلمته حكومة المزايدات اللفظية فطلبت استقالته لا لذنب سوى أنه أراد أن يعفي الجامعة “محدودة الدخل” من تبعات المزايدات الانتخابية لأحد أسلافه.
تشرفت أن تلقيت العلم الكيميائي على يديه رحمه الله فكان نعم الأستاذ، ونعم المربي، ولم يكن يترك المحاضرات المتخصصة تسرقنا من لمحة تربوية هنا أو إشارة وطنية او تثقيفية هناك. وكم فاجأنا أنه لم يسمح للمناصب أن تبعده عن مختبره البحثي حتى بعد أن حصل على درجة الأستاذية فاستمر في العمل في مختبره بنفسه، بل وحتى بعد أن عُين نائب لرئيس جامعة مؤتة ومن ثم رئيسا اصيلا لها. وهذا الحرص على العلم ليس جديدا، ولا مستغربا، حيث نجد أنه رحمه الله بعد استكمال درجة الماجستير في الكيمياء الجنائية (مبتعثا من الأمن العام) قضى عاما تدريبيا كاملا في قسم علم الجريمة بشرطة مدينة نيويورك ليزداد علما واطلاعا في تخصصه الدقيق.
لكن الرجل لم يكن استاذا في قاعة التدريس فحسب، بل اختار أن يكون كذلك في مساحة العمل الأكاديمي العام. ففي أوائل التسعينيات عين نائبا لرئيس جامعة مؤتة (قبل أن يعين لاحقا رئيسا أصيلا لها) وحصل لذلك الغرض على إجازة تفرغ علمي من جامعة اليرموك، لكن ديوان المحاسبة لفت انتباهه أن هذا الإجراء مخالف للقانون باعتبار أن إجازة التفرغ العلمي هي للعمل البحثي لا الإداري. فما كان منه رحمه الله إلا أن أعاد كامل المبالغ التي تلقاها كمرتب تفرغ علمي، وتقدم بطلب جديد لإجازة دون راتب. وأنقل هذه الواقعة عن أحد العاملين وقتها في ديوان المحاسبة ممن شهد على إعادة (وليس استعادة) المبالغ كاملة.
ثم حين أصبح رئيسا أصيلا للجامعة اتخذ موقفا حاسما ضد التعيينات الانتخابية التي اثقلت كاهل الجامعة وتسببت بمديونيتها، وللاسف فقد اختارت “حكومة ما” أن تنصاع وقتها للرغبات الانتخابية لأحد وزرائها، فتطلب استقالة المرحوم من وسط جلسة مجلس الوزراء، وها هي جامعة مؤتة تنوء اليوم بالمديونية المتراكمة نتيجة تلك التعيينات الانتخابية التي حاول رحمه الله إنقاذها منها.
والمرحوم الأستاذ الدكتور العطيات صاحب مدرسة في الكيمياء التحليلية الجنائية والحيوية، منذ رسالته للدكتوراة التي تناول فيها تجميد الإنزيمات في العام 1984 من جامعة ولاية واشنطن، وما عناه ذلك من تطورات بحثية في مجالي الكيمياء التحليلية والجنائية، يتضح من عدد الدراسات والبحوث التي استندت إلى رسالته تلك، وصولا إلى آخر رسالة جامعية شارك في الإشراف عليها وتناولت قياس نسبة معدن الرصاص في بعض النباتات الطبية التي يتداولها الناس دون انتباه لمخاطرها السمية.
ولم يغفل رحمه الله المكتبة العربية التخصصية من إسهاماته، فقد نشرت له جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية عددا من الكتب التي تناولت تطبيقات الكيمياء الجنائية مثل “التحقيق العلمي للكشف عن مسببات الحريق العمد”، و”المخدرات و العقاقير الخطرة و مسؤولية المكافحة”، ودور ” العلم في مكافحة المخدرات “، و”امن الوثائق و المعلومات” و”امن الوثائق في الدولة”، بالإضافة إلى محاضرة شاملة عن مفاهيم غسيل الأموال في بواكير الاهتمام الحكومي بهذا الموضوع ألقيت في مؤتمر عربي متخصص أقيم في العاصمة عمان.
وللمرحوم بصمات مهمة في تعريب مناهج الكيمياء أردنيا وعربيا، وعلى المستويين الجامعي والمدرسي، بالتشارك مع زميليه المرحومين أ.د سليمان سعسع وأ.د إبراهيم الخصاونة، عداك عن إسهاماته المختلفة في القيادة الجامعية على مستوى عضوية مجلس الأمناء في جامعات الأردنية والبلقاء التطبيقية ومؤتة، إضافة إلى نشاطه في اتحاد الكتاء والأدباء الأردنيين.
في العام 1990 خصصت النشرة الشهرية لقسم الكيمياء في جامعة ولاية واشنطن التي أنهى فيها الدكتوراة صفحة خاصة للحديث عنه رحمه الله باعتباره أنموذجا للخريج المتميز على المستوى العالمي، تحدث كاتبها عن العطيات الأكاديمي والباحث والاب والإنسان، إلا أن أبرز ما يستوقفك في تلك المقالة إشارة الكاتب الأمريكي إلى أن نقطة تميز الدكتور العطيات في مجال الكيمياء الجنائية، منذ أن كان مديرا للمختبر الجنائي في الأمن العام برتبة مقدم تنبع بشكل رئيس من إيمانه وتدينه كمسلم مواظب على الصلوات الخمس.
ولعلي أستذكر هنا موقفا أبويا وشخصيا منه حين جئته مسلّما عليه عند تخرجي من الجامعة، فقد فاجئني بأن طلب مني تزويده بنسخة مجلدة من مجموعة مقالات تخصصية وعامة كنت أنشرها إبان دراستي الجامعية ومن بينها قصيدة كنت هنأته فيها بترقيته للأستاذية الكاملة. يومها شعرت بفخر مضاعف خاصة عندما نظرت في عينيه لأرى فخر الأب والمعلم ولكم أن تتخيلوا كم يعني ذلك من دافع معنوي قوي لطالب خريج.
وأعتقد أن من الوفاء هنا لذكرى الاستاذ الدكتور عبدالرحمن العطيات رحمه الله؛ مؤسس المختبر الجنائي الأردني والرئيس السابق لجامعة مؤتة، أن تبادر كليتا العلوم الشرطية والعلوم في جامعة مؤتة بالتعاون مع مديرية الأمن العام باستحداث “كرسي الأستاذ الدكتور عبدالرحمن العطيات للعلوم الجنائية” بحيث يختص في العلوم الجنائية الحديثة وليس فقط الكيمياء الجنائية. وكلي ثقة أن عطوفة اللواء الركن حسين الحواتمة مدير الأمن العام وعطوفة أ.د عرفات عوجان رئيس جامعة مؤتة هما خير من يقدر قيمة الرجال ويحفظ مكانتهم العلمية.
رحم الله أستاذنا الكبير الأستاذ الدكتور عبدالرحمن شعبان العطيات وجعل مثواه الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، ولعله بإذن الله في جنان الخلد الآن مع ابنه المرحوم أنس رحمة الله عليهما، وخالص العزاء لأسرته الصغيرة وعشيرة العطيات الكرام وأهالي السلط الغراء وجموع تلاميذه وزملائه في الأمن العام وجامعتي اليرموك ومؤتة.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.