لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس
الدكتور منصور العبادي\جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية
نعتقد نحن المسلمون أنه لا حدود لعلم الله وقدرته وعلى هذا فإنه لا فرق عند الله سبحانه وتعالى بين خلق الأشياء البسيطة أو المعقدة أو بين الأشياء الصغيرة والكبيرة فهو كما وصف نفسه في قوله سبحانه “وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا” فاطر 44. وإذا ما ذكر الله سبحانه وتعالى أن خلق شيء ما أهون عليه من خلق شيء آخر فإنما هو توضيح للناس عن مدى التعقيد الموجود في طريقة خلق تلك الأشياء. فعندما أخبر سبحانه وتعالى زكريا عليه السلام أن ولادة إبنه يحيى عليه السلام من إمرأنه العاقر أمر هين عليه سبحانه فإنما يوضح له أن خلق الحي من الحي أبسط من خلق الحي من الميت وذلك في قوله تعالى “قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا” مريم 9. وكذلك فإن إعادة خلق الأشياء أبسط من خلقها في أول مرة لقوله تعالى “وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم” الروم 27. والله سبحانه وتعالى المنزه عن التشبيه لا يحتاج أن يتفكر ولا أن يتذكر ولا أن يتحرك إذا ما أراد أن يخلق شيئا من الأشياء صغر هذا الشيء أم كبر كما جاء وصف ذلك في قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نهح البلاغة “أنشأ الخلق إنشاء، وابتدأه ابتداء، بلا روية أجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفس اضطرب فيها، أحال الأشياء لأوقاتها، ولأم بين مختلفاتها، وغرز غرائزها، وألزمها أشباحها، عالما بها قبل ابتدائها، محيطا بحدودها وانتهائها، عارفا بقرائنها وأحنائها”. وإذا ما أراد الله سبحانه أن يخلق شيئا من الأشياء فإن ذلك سيتم بمجرد قوله لذلك الشيء كن فيكون وذلك دون حركة يحدثها أو همامة نفس يضطرب فيها مصداقا لقوله تعالى “إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون” يس 82.
وإذا ما حدث وأن خلق الله شيئا ما على مدى فترة محددة من الزمن فليس لعجز فيه سبحانه ولا لأن تصنيع ذلك الشيء يتطلب تلك الفترة من الزمن بل لأن الله سبحانه أراد أن يخلق ذلك الشيء على هذه الصورة وعلى مدى تلك الفترة من الزمن لحكمة أرادها. فالله قادر على خلق السموات والأرض في لحظة واحدة ولكنه خلقهما من الدخان على مدى يومين من أيامه التي لا يعلم طولها إلا هو سبحانه وهو قادر سيحانه على تجهيز الأرض الأولية لتكون صالحة لظهور الحياة عليها في طرفة عين ولكن حكمته اقتضت أن يجهزها على مدى أربعة أيام وهو قادر كذلك على خلق أدم عليه السلام من التراب بقوله له كن فيكون ولكن لحكمة أرادها خلقة على مراحل متعددة كمراحل الطين اللازب والحمأ المسنون والصلصال وسلالة الطين. ومن السهل علينا اليوم إدراك هذه الحكمة حيث أننا نعيش في عصر فتح الله فيه على البشر جميع أبواب العلم والمعرفة وتمكنوا من استخدامها في كشف كثير من أسرار مخلوقات هذا الكون. فالبشر بما وهبهم الله من عقول يمكنهم التعرف على مدى علم الصانع من خلال دراسة تركيب المصنوع فصانع الطائرة لا بد أنه أعلم من صانع السيارة وهذا بدوره أعلم من صانع العربة التي تجرها الخيول. وقياسا على ذلك فإنه بإمكان البشر الاستدلال على مدى علم الله وقدرته من خلال دراسة ما في هذا الكون من مخلوقات لا حصر لأعدادها والتي فيها من الإبداع والإتقان ما يثبت أن الذي خلقها لا حدود لعلمه وقدرته. ولهذا السبب نجد أن الله قد دعا البشر في القرآن الكريم إلى دراسة هذه المخلوقات وكشف أسرار تصنيعها لعل ذلك يقودهم إلى معرفة أن لها صانعا لا حدود لعلمه وقدرته فقال عز من قائل “إنّ في السموات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبثّ من دآبّة ءايات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح ءايات لقوم يعقلون تلك ءايات الله نتلوها عليك بالحقّ فبأي حديث بعد الله وءاياته يؤمنون” الجاثية 3-6.
ولكي يتمكن البشر من إدراك مدى الإعجاز الموجود في مخلوقات الله فقد اقتضت حكمة الله أن يخلقها وفق أسس علمية واضحة وقوانين ثابتة وعلى مدى فترات زمنية محددة على الرغم من أن الله قادر على خلقها من العدم في لحظة واحدة وبلا قوانين. فعندما أراد الله عز وجل أن يخلق السموات والأرض من الدخان خيرهما الله بين أن يتكونا طوعاﹰأو كرهاﹰفاختارا الطريقة الطوعية في إشارة إلى أن خلقهما سيتم وفق قوانين فيزيائية أودعها الله مادة هذا الكون مصداقا لقوله تعالى “ثمّ استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين” فصلت 11. وما ينطبق على السموات والأرض من قبول خلقهما بطريقة طوعية ينطبق على كل ما خلق الله من مخلوقات في هذا الكون حيث أكد القرآن الكريم على أن هذه المخلوقات قد تم خلقها وفق تقدير بالغ لقوله تعالى “وخلق كلّ شيء فقدّره تقديرا” الفرقان 2 وقوله تعالى “إنّا كلّ شيء خلقناه بقدر” القمر 49 وقوله تعالى “صنع الله الذي أتقن كلّ شيء” النمل 88. ومما يثير الاستغراب أن بعض المسلمين لا يعجبهم أن العلماء في مختلف تخصصاتهم يعملون على كشف أسرار تحول الدخان إلى هذا الكون البديع أو تحول الكرة الأرضية البدائية إلى أرض صالحة لظهور الحياة عليها أو تحول تراب الأرض الميت إلى هذه الملايين من أنواع الكائنات الحية. وحجة هؤلاء الناس أنه إذا تمكن العلماء من معرفة طريقة تصنيع ما في هذا الكون من مخلوقات وأنها تمت وفق أسس علمية محددة فإن هذا ينفي أن يكون الله قد تدخل في تصنيعها. ولكن العكس هو الصحيح فمعرفة الطرق التي خلق الله بها مخلوقاته وفق القوانين التي تحكم هذا الكون هي التي ستقود الناس للاعتراف بوجود خالق لا حدود لعلمه وقدرته إذا ما تبين لهم أن ذلك الأمر يستحيل أن يكون قد تم بالصدفة وصدق الله العظيم القائل “سنريهم ءاياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ أولم يكف بربّك أنّه على كلّ شيء شهيد” فصلت 53 والقائل سبحانه “وقل الحمد لله سيريكم ءاياته فتعرفونها وما ربّك بغافل عمّا تعملون” النمل 93.
ونعود بعد هذه المقدمة لشرح الآية التي هي عنوان هذه المقالة وهي قول الله تعالى في محكم تنزيله “لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون” غافر 57. فهذه الآية تفيد بأن عملية خلق السموات والأرض أعقد من عملية خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقيقة. إن تعقيد عمليات تصنيع الأشياء من موادها الخام لا يرتبط بالضرورة بحجمها فالتعقيد الموجود في عملية تصنيع راديو أو آلة حاسبة أو جهاز هاتف خلوي بحجم الكف يفوق أضعافا مضاعفة التعقيد الموجود في تصنيع خزانة من الخشب أو بيت من الحجر. ولو أن تعقيد عملية تصنيع الأشياء يرتبط بحجمها فإن كل الناس يعلمون أن حجم السموات والأرض يزيد ببلايين المرات عن حجم الإنسان وبالتالي فلا داعي للقول بأن خلقها أعقد من خلق الإنسان. ولكن بما أن الآية القرآنية أشارت إلى أن أكثر الناس لا يعلمون حقيقة أن خلق السموات والأرض أعقد من خلق الناس فلا بد أن يكون التعقيد في عملية خلق السموات والأرض لا يعود لحجمها بل لشيء آخر فيها. ولقد فطن المفسرون إلى هذه الحقيقة فقالوا في تفسير هذه الآية أن السموات والأرض خلقت من العدم بينما تم خلق الناس من التراب ومن الواضح أن خلق الأشياء من العدم أصعب من خلقها من موادها الخام. ولكن فات هؤلاء المفسرون أن الله قد ذكر في كتابه الكريم أنه خلق السموات والأرض من الدخان وليس مباشرة من العدم وكذا هو الحال مع الناس الذين خلقهم من التراب الذي سبق أن خلقه الله من العدم. لقد ذكر الله هذه الحقيقة وترك للبشر بما آتاهم الله من عقول أن يكتشفوا الطريقة التي خلقت من خلالها السموات والأرض والطريقة التي خلق من خلالها الناس ليتيقنوا صدق هذه الحقيقة.
وسنشرح الآن الخطوط العريضة لطريقة خلق الناس وطريقة خلق السموات والأرض وسيتبين لنا بعد مقارنة الطريقتين صدق ما أكد عليه القرآن من أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس. لقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يصنع من التراب نسخة واحدة فقط من كل نوع من أنواع الكائنات الحية ومن ثم تم برمجتها بحيث يمكنها القيام بتصنيع نسخ عنها بطريقة تلقائية. فعملية خلق الإنسان وبقية الكائنات الحية تمت على مرحلتين مرحلة خلق الأصول من التراب ومرحلة خلق الأفراد من أصولها باستخدام خلية واحدة فقط مصداقا لقوله تعالى “أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا” الكهف 37. ولولا أن طريقة التصنيع الذاتية هذه تحدث أمام أعين البشر كل يوم لما ترددوا في تكذيب فكرة أن يقوم الشيء بتصنيع نسخة عن نفسه من تلقاء نفسه ولقالوا أن ذلك ضرب من الخيال. لقد تبين لعلماء الأحياء أن عملية تصنيع جميع أنواع الكائنات الحية تبدأ من خلية واحدة وعند إمداد هذه الخلية بما تحتاجه من غذاء فإنها تبدأ بالانقسام المتكرر وفقا للتعليمات الصادرة عن برنامج التصنيع الموجود في داخلها بحيث تأخذ كل خلية من الخلايا الناتجة المكان المخصص لها في جسم الكائن. إن الذي قام بكتابة برامج تصنيع الكائنات الحية لم يكتف ببرمجة الخلية الحية بحيث يمكنها إنتاج كائن حي لمرة واحدة فقط بل قام ببرمجة خلايا الكائن الحي بحيث يمكنه إنتاج خلية حية تكاثرية تقوم بتصنيع كائن جديد يقوم بدوره بإنتاج خلية جديدة وهكذا دواليك. وباستثناء التزاوج والرعاية فإن جميع الكائنات الحية لا تتدخل أبدا في عملية تصنيع نسخا عنها فالإنسان الذي يمتلك القدرة على تصنيع الأشياء يقف مكتوف الأيدي إذا ما فشل جسمه أو جسم زوجه في إنتاج خلايا التكاثر التي تنتج منهما إنسانا جديدا. وعلى الرغم من أن البشر في هذا العصر يعلمون تماما أن عملية التحول هذه تتم وفق أسس علمية تمكن علماء الأحياء من كشف كثير من تفاصيلها إلا أنهم يقفون عاجزين تمام العجز عن تصنيع أبسط أنواع هذه الكائنات بل إنهم أعجز من تصنيع أبسط أنواع المواد العضوية التي تقوم الخلايا الحية بتصنيعها بكل سهولة ويسر. إن عملية تصنيع الكائنات الحية التي تعد أنواعها بعشرات الملايين ابتداءا من خلية واحدة فيها نفس المكونات ياستثناء معلومات التصنيع المخزنة على أشرطتها الوراثية هي معجزة كبرى تحدى الله البشر للإتيان بمثلها في قوله سبحانه “ياأيّها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إنّ الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حقّ قدره إنّ الله لقويّ عزيز” الحج 73. إن تمكن علماء الأحياء من معرفة بعض أسرار عملية التصنيع الذاتية هذه تزيد من إعجاز هذه المعجزة فإذا كان كفار البشر يعتبرون المعجزات التى أتى بها الأنبياء ضربا من السحر فإن هذه العملية لا سحر فيها بل فيها من إتقان الصنع ما يدل على صانع لا حدود لعلمه وقدرته.
إن السر الأعظم في طريقة التصنيع الذاتية هو في كتابة كامل تعليمات التصنيع على أشرطة طويلة ودقيقة من الحامض النووي بطريقة رقمية باستخدام أربعة حروف فقط وكلمات بطول ثلاثة حروف. ويتم تنفيذ تعليمات التصنيع من قبل مكونات موجودة في الخلية ليس لها عقل تفكر به ولا بصر ترى به ولا أرجل تتحرك بها ولا أيدي تمسك بها. وقد اكتشف العلماء أن جميع أنواع الشيفرات المخزنة على الأشرطة الوراثية هي شيفرات لتمثيل الأحماض الأمينية العشرين التي تعتبر اللبنات الأساسية لتصنيع جميع أنواع البروتينات. وقد تمكن العلماء من كشف السر الثاني من أسرار طريقة التصنيع الذاتية بعد أن تبين لهم أن السلاسل البروتينية أحادية البعد يمكنها أن تلتف على نفسها بطريقة محددة لتنتج جزيئات ثلاثية الأبعاد بأشكال وأحجام وخصائص فيزيائية وكيميائية مختلفة. ويتم تصنيع البروتينات في مكونات دقيقة في داخل الخلية تسمى الرايبوسومات وذلك بعد أن يتم تزويدها بالمواد الخام وهي الأحماض الأمينية ونسخة من التعليمات التي تبين ترتيب هذه الأحماض. أما السر الثالث فهو قدرة بعض البروتينات للعمل كأنزيمات تعمل كمحفزات للتفاعلات الكيميائية التي تحدث في داخل الخلايا الحية وبهذه الخاصية الفريدة للأنزيمات يتم تقليل الطاقة اللازمة لإتمام التفاعلات الكيمائية في أجسام الكائنات الحية ويتم التحكم بأنواع التفاعلات التي تجري في داخل الخلية الحية بشكل بالغ الدقة. وقد تبين للعلماء أن الأنزيمات هي المسؤولة عن تنفيذ خطوات برنامج التصنيع فعندما يبدأ الشريط بتنفيذ برنامج التصنيع يصدر أمرا لإنتاج أنزيم محدد مهمته البحث عن معلومة محددة مخزنة في مكان ما على طول الشريط فيقوم بفتح الشريط في ذلك المكان ليصدر أمرا بتصنيع بروتين معين وهكذا تتوالى عمليات تصنيع البروتينات والمحفزات طبقاﹰ للتعليمات المخزنة على الشريط إلى أن تنتهي العملية المراد تنفيذها. أما السر الرابع فهو أن مكونات الخلية يتم تصنيعها من خلال إنتاج جميع البروتينات اللازمة لبنائها ومن ثم تقوم هذه البروتينات بالتراكب مع بعضها البعض بشكل تلقائي بمجرد التقائها في حيز واحد. ولا يمكن لهذه العملية أن تنجح إلا إذا تم تصنيع كل بروتين من هذه البروتينات بشكل فريد ومميز بحيث لا يمكنه الارتباط بجسم المكون أثناء عملية تصنيعه إلا في المكان والوقت المحددين. أما السر الخامس فهو أن الخلايا الحية تقوم بتوفير الطاقة اللازمة لعملية التصنيع إما بأخذها من الشمس مباشرة أو من مواد عضوية تحتوي على الطاقة التي سبق لبعض الخلايا أن قامت بأخذها من الشمس. ففي كل خلية من خلايا النباتات والطحالب توجد البلاستيدات الخضراء التي تعتبر أكبر مصنع لإنتاج المواد العضوية على وجه هذه الأرض حيث يقوم هذا المصنع الذي لا تتجاوز أبعاده عدة ميكرومترات بتزويد جميع الكائنات الحية بالطاقة اللازمة لإجراء عملياتها الحيوية من خلال عملية التركيب الضوئي.
إن عملية بناء جسم الكائن الحي تحتاج إلى قوة عاقلة تمتلك تصور مسبق عن كامل تفاصيل هذا الجسم بحيث يمكنها أن تصدر الأوامر لعمال البناء بوضع الخلايا الحية في الأماكن المخصصة لها وفق خطوات محددة ومتسلسلة. ولكن بما أنه لا يوجد قوة خارجية تقوم بحمل الخلايا ووضعها في أماكنها في جسم الكائن فإن هذه المهمة تقع على عاتق الخلايا نفسها. ويقع على عاتق الخلية الأولى التي يبدأ منها عملية تصنيع تحديد عدد الانقسامات التي ستلزم لإنتاج جميع الخلايا التي يحتاجها بناء الجسم من خلال تحديد أنواع وأعداد الخلايا التي تلزم لبناء كل عضو من أعضاء الجسم. وبما أن الخلية الأولى ستختفي بمجرد انقسامها إلى خليتين جديدتين فإن عدد الانقسامات التي ستجريها كل من هاتين الخليتين يجب أن يكون مسجل في داخلها ومع تكرار عمليات الانقسام يجب أن يوجد مؤشر في داخل كل خلية من الخلايا الناتجة يحدد عدد الانقسامات التي ستجريها في المستقبل. وعلى الخلية الأولى قبل أن تنقسم أن تحدد المهام التي ستقوم بها الخليتان الناتجتان عنها وهاتان بدورهما يجب أن يقوما بتحديد مهام الخلايا الأربع التي ستنتج عن انقسامهما وهكذا يتم توزيع المهام على بقية الخلايا التي ستنتج عن الانقسام المتكرر للخلية الأولى. ومن الواضح أنه بعد حدوث عدد معين من الانقسامات تبدأ الخلايا بالتخصص فخلية ستتولى تصنيع الهيكل العظمي وثانية ستتولى تصنيع الجهاز العضلي وثالثة للجهاز العصبي ورابعة للجهاز الدوري وإلى غير ذلك من أجهزة الجسم. وبما أن الخلايا تتلقى أوامر انقسامها من شريط الحامض النووي الذي في داخلها فقط فهذا يستلزم أن تقوم كل خلية من هذه الخلايا بتنفيذ جزء محدد من برنامج تصنيع الكائن المخزن في الشريط الوراثي الكلي. ومما يزيد من صعوبة ترتيب وتنفيذ هذه البرامج التداخل الكبير بين الأجهزة المختلفة لجسم الكائن فبعض مكونات الجهاز الدوري والعصبي تمتد إلى داخل مكونات الأجهزة الأخرى والجهاز البصري والسمعي موجودة في داخل تجاويف الهيكل العظمي والجهاز العضلي يرتبط ارتباطا كبيرا بالهيكل العظمي. وهذا يتطلب ممن يقوم بكتابة برامج تصنيع الأجهزة المختلفة أن يراعي هذا التداخل الشديد بين هذه الأجهزة ويضمن توافق أحجامها ووظائفها عند تصنيع جسم الكائن. وبما أن كل خلية من خلايا الجسم المراد تصنيعه تقوم بتنفيذ جزء البرنامج الخاص بها حسب موقعها من الجسم وبشكل مستقل عن بقية الخلايا فإن هذا يتطلب أن تكون الأوامر الصادرة عنها في كل لحظة من لحظات تصنيع الكائن على درجة عالية من التنسيق والتزامن ليظهر الكائن الحي بالشكل المطلوب. وبما أنه لا يوجد أيّ نظام تحكم مركزي يعمل على التنسيق بين الخلايا أثناء انقسامها فإن عملية التنسيق هذه تتم بشكل غير مباشر من خلال الأوامر التي تصدرها بلايين الأشرطة الوراثية بشكل مستقل ولكن بتزامن منقطع النظير. ولولا هذا التقدير البالغ في كتابة برامج التصنيع لما أمكن لخلية واحدة أن تتحول إلى ملايين الأنواع من الكائنات الحية التي لا يوجد نوع منها يشبه النوع الآخر. إن عملية التحول العجيبة هذه نشاهدها كل يوم في بذور النباتات وهي تخرج من الأرض ملايين الأنواع من النباتات ونشاهدها في بيوض الأسماك والطيور والزواحف والحشرات التي تتحول في أيام أو أسابيع معدودة من مواد عضوية بسيطة إلى كائنات حية لا حصر لعدد أنواعها ونشاهدها في البويضات الملقحة التي تزرع في أرحام إناث الحيوانات فتتحول في أشهر معدودة إلى حيوانات بمختلف الأحجام والأشكال والألوان. ولقد وصف القرآن الكريم بإسلوب رائع رحلة الخلية الوحيدة وهي تتحول من خلال الانقسام المتكرر إلى مختلف الأطوار التي يمر بها تصنيع الإنسان في رحم أمه فقال عز من قائل “ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثمّ جعلناه نطفة في قرار مكين ثمّ خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثمّ أنشأناه خلقا ءاخر فتبارك الله أحسن الخالقين” المؤمنون 12-14.
أما خلق السموات والأرض فقد تم طبقا للنظريات العلمية الحديثة نتيجة لانفجار كوني عظيم انبثقت منه جميع مادة هذا الكون حيث كان الكون عند ساعة الصفر على شكل نقطة مادية غاية في الصغر لها درجة حرارة وكثافة غاية في الكبر. ويقول العلماء أن مادة الكون كانت عند بداية الانفجار مادة صرفة ذات طبيعة واحدة وتحكمها قوة طبيعية واحدة وكانت على شكل كرة نارية متجانسة بدأت تتمدد وتتسع بصورة مذهلة لتملأ الفضاء من حولها. وبعد هبوط درجة حرارة هذه المادة إلى 10 مرفوع للأس 28 درجة كلفن بدأت الجسيمات الأولية البسيطة كالكواركات واللبتونات والفوتونات بالتشكل من هذه المادة الصرفة وبدأت كذلك قوى الطبيعية الأربعة التي كانت موحدة في قوة واحدة بالانفصال عن بعضها البعض. ومع استمرار تناقص درجة حرارة هذا الكون الناشئ إلى 10 مرفوع للأس 14 درجة كلفن بدأت مكونات الذرة الأساسية من بروتونات ونيوترونات وإلكترونات بالتشكل من خلال اندماج أنواع الكواركات والليبتونات المختلفة مع بعضها البعض تحت تأثير القوى الطبيعية المختلفة. ولقد وصف القرآن الكريم حالة الكون في هذه المرحلة بقوله تعالى “ثمّ استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كلّ سماء أمرها وزيّنّا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم” فصلت 11-12. لقد كشفت هذه الآيات عن هذه الحقيقة الكبرى التي لم يكتشفها البشر إلا في القرن العشرين وهي أن الكون كان على شكل مادة دخانية في مرحلة نشؤه الأولى. وقد أطلق العلماء على هذه السحابة من الجسيمات الأولية اسم الغبار الكوني بينما سماها القرآن الدخان وهي أدق من تسمية العلماء فالدخان يوحي بالحالة الحارة التي كان عليها الكون عند بداية خلقه. وقد أشار القرآن الكريم في آية أخرى إلى المصدر الذي جاء منه هذا الدخان حيث ذكر أن السموات والأرض كانت كتلة واحدة ثم تفتفت جميع مادة هذا الكون من هذه الكتلة وذلك في قوله تعالى “أولم يرى الذين كفروا أنّ السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ أفلا يؤمنون” الأنبياء 30. وممّا يؤكد أيضا على أن هذا الدخان قد نتج عن انفجار كوني ضخم هو إشارة القران إلى أن الكون في توسع مستمر والتوسع لا يتأتى إلا إذا بدأ الكون من جرم صغير وبدأ حجمه بالازدياد وذلك لقوله تعالى “والسماء بنيناها بأييد وإنّا لموسعون” الذاريات 47.
إن اختيار عملية الانفجار لتكون بداية لخلق الكون تدل على مدى علم من اختارها حيث أن الكون لن يكون مستقرا أبدا لو تم خلقه بغير هذه الطريقة. ومما يدل على محدودية علم البشر هو أن أحد أعظم علمائهم في القرن العشرين وهو ألبرت أينشتاين كان يظن أن الكون ساكنا وهذا لا يمكن أن يكون أبدا حيث أن الكون سينهار على نفسه بسبب قوة الجاذبية بين أجرامه. فهذا الكون لا يمكن أن يكون مستقرا إلا إذا كان كل جرم من أجرامه في حالة حركة مستمرة ولو حدث أن توقف أي جرم عن الحركة لأنجذب فورا إلى أقرب الأجرام إليه. ولهذا فقد اختار الله سبحانه نوعين من الحركة لهذه الأجرام حركة دائرية وأخرى خطية فالحركة الدائرية اختارها الله لحفظ الأقمار حول الكواكب والكواكب حول الشموس والشموس حول مراكز المجرات ولوقف هذه المتوالية اختار الله الحركة الخطية لحفظ المجرات من الإنجذاب لبعضها حيث أنها تتحرك في خطوط مستقيمة باتجاهات خارجة من مركز الإنفجار وصدق الله العظيم القائل “والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدّرناه منازل حتّى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلّ في فلك يسبحون” يس 38-40. إن حركة الأجرام الدائرية حول مراكز دورانها يمكن أن تبقى إلى ما لانهاية حيث أنها تسبح في فضاء لا وجود لقوى الاحتكاك فيه ولكن حركة المجرات الخطية لا يمكن أن تستمر إلى ما لانهاية وذلك بسبب تأثير قوة الجاذبية لجميع مجرات هذا الكون على كل مجرة. وبما أن محصلة قوة الجذب على كل مجرة تكون باتجاه مركز الكون الذي هو مكان الانفجار العظيم فإن السرعة الخطية للمجرات لا بد أن تتباطأ تدريجيا إلى أن تصل للصفر وعندها تبدأ المجرات بالتسارع باتجاه مركز الكون لينهار الكون على نفسه ويعود من حيث بدأ وصدق الله العظيم القائل “يوم نطوي السماء كطيّ السجلّ للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنّا كنّا فاعلين” الأنبياء 104. ومما يدل على لامحدودية علم من خلق هذا الكون أن قوة الانفجار هذا قد تم حسابها بشكل بالغ الدقة بحيث يكون لهذا الكون عمرا محددا لا يعلمه على وجه التحديد إلا الله ويقدر العلماء ما مضى من عمر هذا الكون ما بين ثمانية وخمسة عشر بليون سنة.
لقد أصيب العلماء بالدهشة من البساطة المتناهية التي كان عليها الكون عند بداية خلقه حيث بدأ بثلاثة جسيمات فقط وهي البروتونات والنيوترونات والإلكترونات ثم وصل إلى هذا الشكل المعقد الذي نراه عليه اليوم. ويمكن أن نستدل على هذا التعقيد من كثرة التخصصات العلمية التي ابتدعها العلماء لكي يتمكنوا من دراسة كل ما في هذا الكون من مخلوقات ولم يتوقف الأمر عند التخصصات الرئيسية كالفيزياء والكيمياء والأحياء والجيولوجيا والفلك بل ظهر في كل من هذه التخصصات الرئيسية تخصصات فرعية بحيث يصعب على مختص في فرع ما فهم الأبحاث في أقرب الفروع إليه. وممّا أثار دهشة العلماء أيضا أن أعداد وأنواع الكواركات التي انبثقت من هذا الانفجار العظيم كانت محسوبة بدقة بالغة بحيث أنها أنتجت بعد اتحادها عدد من البروتونات يساوي تماما عدد الإلكترونات وكمية من النيوترونات تكفي لتصنيع جميع العناصر الطبيعية وهذا لا يمكن أن يتم إلا إذا كان الذي كتب المعادلات الفيزيائية لهذا الانفجار لا حدود لعلمه وقدرته. ومن عجائب التقدير في عملية خلق الكون أنه لو زاد عدد البروتونات عن عدد الإلكترونات أو العكس بفرق مهما بلغ في الضآلة فإن جميع الأجرام السماوية ستصبح مشحونة بشحنات كهربائية متماثلة. وبما أن القوة الكهرومغناطيسية تزيد شدتها ببليون بليون بليون مرة شدة قوة الجاذبية فإنها ستمنع المجرات والنجوم والكواكب من التشكل وستتطاير ذرات هذا الكون في كل اتجاه بسبب قوة التنافر بين مكوناتها. إن جميع العناصر الطبيعية الموجودة في هذا الكون والتي يزيد عددها عن مائة عنصر قد صنعت في باطن النجوم من هذه الجسيمات الثلاثة فقط وعلى الرغم من أن الفرق في تركيب العنصر والعنصر الذي يليه في الجدول الدوري هو بروتون واحد فقط ونيوترون واحد أو أكثر إلا أننا نجد تفاوتا كبيرا في خصائصها الفيزيائية والكهربائية والكيمائية. وإذا كانت جميع العناصر الطبيعية التي يزيد عددها عن المائة قد بنيت من لبنات ثلاثة فقط فللقارئ أن يتخيل كم سيكون عدد المركبات الكيمائية المحتملة التي يمكن الحصول عليها من تفاعل عنصرين أو أكثر من هذه العناصر. والعجيب كيف أن هذه العناصر والمركبات الكيمائية غير الحية قد تحولت إلى ملايين الأنواع من الكائنات الحية التي لا يوجد فيها نوعا يشبه النوع الآخر في الشكل بل الأعجب من هذا كله أن يكون من بين هذه الكائنات من أوتي القدرة على كشف أسرار المادة التي خلق منها فسبحان الله العظيم القائل “الذي أحسن كلّ شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين” السجدة 7.
أما المرحلة الثانية من مراحل خلق الكون فهي مرحلة تكون النجوم والمجرات فبعد أن برد الكون إلى ما دون عشرة آلاف درجة كلفن بدأت الإلكترونات بالارتباط بالبروتونات لتشكل سحابة من ذرات الهيدروجين والنيوترونات. لقد بقي الكون حتى هذه اللحظة متجانسا أيّ أن هذه السحابة كانت تتوزع على جميع أنحاء الكون بنفس الكثافة ولكن في لحظة ما بدأت كثافة مادة الكون بالاختلال لسبب لم يجد له العلماء تفسيرا مقنعا وتكونت نتيجة لهذا الاختلال مراكز جذب موزعة في جميع أنحاء الكون وبدأت قوة الجاذبية تلعب دورها بجذب مزيد من الهيدروجين المحيط بهذه المراكز إليها منشئة بذلك كتل ضخمة من الهيدروجين. وعندما وصل حجم هذه الكتل إلى حجم معين ونتيجة للضغط الهائل على الهيدروجين الموجود في مراكزها ارتفعت درجة حرارته إلى الحد الذي بدأت فيه عملية الاندماج النووي بين ذرات الهيدروجين منتجة ذرات الهيليوم بالإضافة إلى كميات كبيرة من الطاقة فتكونت بذلك النجوم. وتتفاوت أحجام النجوم المتكونة حسب كمية الهيدروجين الذي سحبته من الفضاء الكوني فكلما ازداد حجم النجم كلما ازدادت درجة حرارة باطنه بسبب ازدياد الضغط الواقع عليه. فالنجوم التي هي بحجم شمسنا لا يمكنها أن تحرق إلا الهيدروجين في باطنها ولذلك فهي لا تصنع إلا عنصر الهيليوم ولتصنيع عناصر أثقل من الهيليوم قدّر الله وجود نجوم أكبر حجما من الشمس. وفي داخل هذه النجوم العملاقة بدأت عمليات اندماج نووية أكثر تعقيدا منتجة بذلك ذرات عناصر الليثيوم والكربون والنيتروجين والأكسجين وانتهاء بالعناصر الثقيلة كالحديد والرصاص واليورانيوم. وكما أن الاختلال الذي حصل في كثافة مادة الكون قد أدى إلى تكون النجوم بشكل منتظم في أرجاء الكون فإن اختلال آخر قد حصل في كثافة هذه النجوم بحيث أن النجوم المتجاورة بدأت بالانجذاب نحو مراكز ثقلها وبدأت بالدوران حول هذه المراكز مكونة المجرات التي بدورها تحمعت على شكل عناقيد. لقد تمكن بعض علماء الفيزياء في أواخر القرن العشرين من وضع نظرية جديدة معدلة لنظرية “الانفجار العظيم” أطلقوا عليها اسم نظرية “الكون المنتفخ” ولقد أتت بحقائق عجيبة تدعم الصورة التي رسمها القرآن عن تركيب هذا الكون. وملخص هذه النظرية أنه في خلال الثانية الأولى من الانفجار العظيم ونتيجة لحدوث ظاهرة فيزيائية غريبة يطلق عليها اسم التأثير النفقي بدأ الكون بالتمدد بمعدلات أكبر بكثير من المعدلات التي نصت عليها نظرية الانفجار العظيم. وقد نتج عن هذا التمدد المفاجئ للكون في لحظاته الأولى ظهور عدة مناطق مادية على شكل فقاعات متلاحقة يفصل بينها حواجز قوية بحيث شكلت كل فقاعة من هذه الفقاعات كونا خاصا بها. وتؤكد النظرية على أن هذا الكون العظيم المترامي الأطراف أو ما يسمى بالكون المشاهد لا يشكل إلا جزءا يسيرا من هذه الأكوان التي لم تستطع النظرية تحديد عددها فسبحان القائل “الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور” الملك 3.
يقدر العلماء بشكل تقريبي عدد المجرات في الكون المشاهد بمائة بليون مجرة وتحتوي كل مجرة في المتوسط على مائة بليون نجم وما يتبع هذا النجم من كواكب وأقمار ويبلغ متوسط المسافة بين مجرتين متجاورتين 25 بليون بليون كيلومتر أو ما يعادل 2.5 مليون سنة ضوئية أما متوسط المسافة بين نجمين متجاورين فتبلغ في المتوسط سنتين ضوئيتين أو ما يعادل 20 ألف بليون كيلومتر وأما المسافة بين الكواكب المتجاورة فتقاس بعشرات الملايين من الكيلومترات وصدق الله العظيم القائل “فلا أقسم بمواقع النجوم وإنّه لقسم لو تعلمون عظيم” الواقعة 75-76. أما السرعات التي تتحرك بها هذه الأجرام في الفضاء فهي في غاية الضخامة فعلى سبيل المثال فإن الأرض تدور حول الشمس بسرعة 108 آلاف كيلومتر في الساعة والشمس تدور حول مركز المجرة يسرعة 800 ألف كيلومتر في الساعة أما المجرة فتندفع في خط مستقيم بسرعة تزيد عن مليوني كيلومتر في الساعة. وعلى الرغم من هذه السرعات الخيالية إلا أننا نعيش آمنين مطمئنين على سطح هذه الأرض التي نحسبها ثايتة لا تتحرك أبدا وصدق الله العظيم القائل “وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب صنع الله الذي أتقن كلّ شيء إنّه خبير بما تفعلون” النمل 88. ولا زال الغموض يكتنف الطريقة التي تم بها إخراج مادة الكون الهائلة من قمقمها على شكل هذا الانفجار العظيم على الرغم من أن الثقوب السوداء الناتجة عن انهيار بعض النجوم الكبيرة لا تسمح حتى للضوء للإفلات من جاذبيتها فكيف أمكن لمادة الكون أن تفلت من أسر جاذبيتها وهي تفوق ببلايين البلايين من المرات جاذبية الثقوب السوداء. إن أكثر ما يدلل على أن الذي حدد المعادلات الفيزيائية لهذا الانفجار العظيم لا حدود لعلمه وقدرته هو تصنيع هذا العدد الكبير من العناصر الطبيعية والتي يقدر العلماء عددها بما يزيد عن مائة عنصر. فشمسنا التي تبلغ درجة حرارة جوفها عشرة ملايين درجة لا يمكنها أن تصنع إلا عنصر الهيليوم من خلال حرق الهيدروجين وحتى النجوم التي يزيد حجمها بعدة أضعاف حجم شمسنا لا يمكنها أن تصنع إلا عدد قليل من العناصر الخفيفة. وقد وجد العلماء أن العناصر الثقيلة لا يمكن تصنيعها إلا عند انهيار النجوم الكبيرة بعد نفود مخزونها من الوقود فتصبح على شكل أقزام بيضاء أو نجوم نيوترونية تصل كثافتها إلى آلاف أو ملايين الأطنان في السنتيمتر المكعب ودرجة حرارة باطنها لمئات الملايين من الدرجات. وقد قدر الله سبحانه وتعالى أن بعض أنواع النجوم المنهارة على نفسها تعود فتنفجر على شكل ما يسمى بالنوفا والسوبرنوفا مبعثرة ما صنعته من عناصر ثقيلة في الفضاء ولولا هذا التقدير لما اجتمع في قشرة أرضنا إثنان وتسعون عنصرا من هذه العناصر بعضها ضروري لنشوء الحياة وبعضها ليستخدمها البشر في صناعاتهم ولكن أكثرهم للأسف لا يقدرون الله حق قدره ولا يشكرونه حق شكره وصدق الله العظيم القائل “وءاتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار” ابراهيم 34.
أما المرحلة الثالثة من مراحل خلق الكون فهي مرحلة خلق الأرض حيث يقول العلماء أن الأرض وكذلك بقية كواكب المجموعة الشمسية قد تكونت نتيجة لتجمع الحطام المتناثر من انفجار عدد كبير من النجوم الذي وقع في أسر جاذبية الشمس وقد تم إذابة هذا الحطام من خلال التصادمات العنيفة بينها وبين النيازك التي تقع عليها من الفضاء. ولقد كان من الضروري أن تكون مادة الأرض عند بداية تكونها على شكل شبه سائل وذلك لكي تأخذ الشكل الكروي الذي هي عليه الآن فالشكل الوحيد الذي تتخذه كتلة من المادة السائلة في الفضاء هو الشكل الكروي. ولكن عند وجود هذه الكتلة السائلة في مجال جاذبية الشمس فإن تبعجا سيحدث في شكل هذه الكرة باتجاه قوة الجذب وقد تم إزالة مثل هذا التبعج من خلال تدوير الأرض بسرعة مناسبة حول محور متعامد مع اتجاه القوة الجاذبة مصداقا لقوله تعالى “والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها” النازعات 30. ولقد استمرت الكرة الأرضية على هذا الحال إلى أن بدأت القشرة الأرضية بالتكون بعد أن برد سطحها نتيجة لإشعاع حرارتها إلى الفضاء الخارجي وعندما أصبح سمكها بقدر كافي بدأت المواد التي تقذف بها البراكين من جوف الأرض بالتراكم فوقه ليبدأ بذلك عملية تكون الجبال. ومن خلال البراكين بدأ بخار الماء بالخروج من باطن الأرض وبدأ بالتراكم بكميات كبيرة فوق سطحها وبسبب ضغطه على قشرتها التي كانت طرية ورقيقة في بداية نشأتها فقد بدأ جزء من سطحها بالانخفاض تحت وطأة هذا الضغط ممّا جلب مزيدا من الماء لهذا الجزء حتى تجمع الماء في جهة واحدة من سطحها وانحسر عن الجزء المتبقي الذي ارتفع مستواه ليكون اليابسة. ولقد ثبت للعلماء أن المحيطات كانت محيطا واحدا وكذلك القارات كانت قارة واحدة وبسبب حركة الصفائح التي تتكون منها القشرة الأرضية بدأت القارة الأولية بالانقسام إلى عدة قارات والمحيط إلى عدة محيطات. وبعد أن تكونت الجبال والقارات والمحيطات والبحيرات والأنهار والغلاف الجوي بدأت الحياة الأولية بالظهور عليها ومن ثم خلق الله النباتات والحيوانات والإنسان وصدق الله العظيم القائل “قل أئنّكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك ربّ العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين” فصلت 9-10.
إن توفير الشروط اللازمة لظهور الحياة على هذه الأرض من الكثرة بحيث أن غياب أحدها كفيل بإنهاء جميع أشكال الحياة على هذه الأرض. فلقد تم اختيار بعد الأرض عن الشمس بتقدير بالغ بحيث تبقى درجة حرارة سطح الأرض في الليل والنهار ضمن الحدود المسموح بها لبقاء الحياة عليها. وتم تدويرها يسرعة محددة وثابتة حول محور متعامد تقريبا مع الخط الواصل بينها وبين الشمس وذلك لكي يتم تعريض جميع سطحها لضوء الشمس من خلال تعاقب الليل والنهار عليها. وتم كذلك إمالة اتجاه محور دورانها عن الاتجاه العمودي بزاوية كافية وبشكل متواصل أثناء دورانها حول الشمس وذلك لتعريض قطبيها لضوء الشمس لإذابة بعض الجليد الموجود عليهما وإلا فإن المطر الذي يسقط عليهما سيتجمد ولن يعود مرة ثانية إلى المحيطات. ويلزم تأرجح محور دوران الأرض كذلك لتغيير درجات حرارة سطحها بشكل دوري من خلال تغيير اتجاه حركة الرياح لتحمل الأمطار إلى معظم أجزاء اليابسة وكذلك لنشوء ظاهرة الفصول الأربعة الضرورية لضبط دورة حياة كثير من النباتات. وقد تم حماية سطح الأرض من إشعاعات الشمس الضارة بطريقة بالغة الذكاء حيث وجد العلماء أن الأرض تتفرد بوجود مجال مغناطيسي تفوق شدته مائة مرة شدة أقوى المجالات المغناطيسية في بقية الكواكب حيث يقوم هذا المجال بتغيير مسار الإشعاعات نحو قطبي الأرض. وبما أن المجال المغناطيسي لا يمكنه صد الجسيمات المتعادلة كهربائية كان من لطف الله أن أحاط الأرض بدرع ثان لحمايتها من هذه الإشعاعات وهو طبقة الأوزون الذي يقوم بامتصاصها ويمنع وصولها إلى سطح الأرض. وقد تم أيضا حماية الأرض من النيازك التي تقذف بها النجوم المنفجرة بعدة آليات أهمها وجود عدد كاف من الكواكب التي تقوم بجذب النيازك لها قبل أن تصل إلى الأرض أما ما تبقى من النيازك الصغيرة التي تفلت من جاذبية الشمس والكواكب فإن الغلاف الجوي يتكفل بحرق معظم كتلتها قبل وصولها إلى سطح الأرض. وقد تم تزويد قشرة الأرض باثنين وتسعين عنصر طبيعي من بين ما يزيد عن مائة عنصر يمكن أن تكون موجودة في هذا الكون ومن عجائب التقدير أن العناصر التي تحتاجها النباتات لإنتاج المواد العضوية والبالغ عددها عشرين عنصرا قد تم توزيعها في جميع هواء وماء وتراب الأرض. وبما أن الماء هو المركب الوحيد الذي لا يمكن للحياة أن تنشأ بدونه فقد تم توفيره بكميات كافية على الأرض مع وجود آليات بالغة الاتقان لتوزيعه على جميع سطح اليابسة. وقد قدّر العلماء كمية الماء الموجودة على سطح الأرض بألف وأربعمائة مليون كيلومتر مكعب وهذه الكمية كافية لتغطية جميع سطحها بارتفاع ثلاثة كيلومترات فيما لو كانت على شكل كرة ملساء. وهذه الكمية من الماء تشكل عشرة بالمائة فقط من مجموع كمية الماء الموجودة في الأرض حيث أن تسعين بالمائة من الماء لا زال محبوسا في داخلها ويخرج بكميات محددة مع البراكين إلى سطحها لتعويض ما يفقد منه إلى الفضاء الخارجي ولولا هذا التقدير لما استمرت الحياة على الأرض لهذه البلايين من السنين. ولقد تم تصميم الغلاف الجوي ليقوم بمهام متعددة تساعد على بقاء الحياة على الأرض كعزل سطحها عن الفضاء الخارجي الذي يحيط بها وكذلك توفير الغذاء اللازم للكائنات الحية حيث يحتوي على ثلاثة عناصر من أهم أربعة عناصر تحتاجها الكائنات وهي الكربون والأوكسجين والنيتروجين.
وأخيرا لو سألت الذين يعلمون من علماء الكون والحياة أيهما أصعب خلق السموات والأرض أم خلق الناس لقالوا لك بكل تأكيد أن خلق السموات والأرض أصعب بكثير من خلق الناس. فطريقة خلق الناس، رغم تعقيدها ورغم عجز البشر عن تقليدها، قد تمكن علماء الحياة من فهم كثير من أسرارها ولا يحول بينهم وبين تقليدها إلا قلة حيلتهم وعجزهم ومحدودية علمهم. ومما يثبت هذا العجز أنه على الرغم من معرفة العلماء للطريقة التي يتم بها تصنيع سكر الجلوكوز من ثاني أكسيد الكربون والماء داخل أوراق النباتات إلا أنهم لا زالوا عاجزين عن تقليد عملية التصنيع هذه ولو قدّر لهم النجاح في ذلك لتم حل مشكلة الغذاء والطاقة في هذا العالم بشكل نهائي. وجزيء سكر الجلوكوز هو من أبسط المواد العضوية تركيبا خيث يتكون من ستة ذرات من الكربون ومثلها من الأكسجين وضعفها من الهيدروجين ولهذا فإن العلماء لا يتجرأون حتى على التفكير في تصنيع البروتينات والأحماض النووية ناهيك عن التفكير في كتابة برامج رقمية على أشرطة الحامض النووي لملايين الأنواع من الكائنات الحية. أما خلق السموات والأرض فعلى الرغم من تمكن العلماء من معرفة بعض أسرار طريقة خلقها إلا أنهم لا يتجرأون على القول بأن باستطاعتهم لو أعطوا سحابة ضخمة من الجسيمات الأولية أن يحددوا مسار التفاعلات الفيزيائية بينها بحيث ينتج عن تفاعلها هذا الكون البديع. إن تحديد الشروط اللازمة لتصنيع ما يزيد عن مائة عنصر طبيعي في قلوب النجوم من التعقيد بحيث لا زال العلماء يجهلون كثيرا من أسرارها وهم أعجز من تحديد شروط انفجار هذه النجوم لكي تؤمن وصول جميع هذه العناصر إلى الأرض. ولو سألت علماء الكون عن احتمالية أن يظهر نفس هذا الكون البديع فيما لو أعيد هذا الانفجار من جديد لاستبعدوا ذلك تماما لأن خللا بسيطا في مجريات أحداثه قد تنتج كونا مختلفا عن كوننا هذا وصدق الله العظيم القائل “لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون” غافر 57.