لم يبتعدْ صوتُكِ المُشْتَهى ..
( لمناسبة الذكرى التاسعة عشرة على رحيل الشاعرة الكبيرة فدوى طوقان رحمها الله )
شعر : عبد الناصر صالح
وحدكِ الآنَ،
لا
لستِ وحدكِ،
تغتسلينَ بماء العيونِ الأسيفةِ
إذْ جفّ ضِرْعُ الينابيعِ
وانشطَر القلبُ نصفَيْنِ :
نصفٌ تلقّفَهُ الموتُ
حين استجارَ من الحلمِ بالدّمعِ ،
فاستنزفتْهُ المتاهاتُ
والرّجَفاتُ المدبّبةُ الرأسِ ،
والآخر ازدانَ بالشِّعرِ
يَقْطرُ ،
مُشْتَمِلاَ باليفاعةِ
لا.. لست وحدكِ ،
تفتَتحينَ البياضَ على أفُقٍ
يتراوَح بين بكائيْنِ/
خلف الجدارِ خُطى الراحلينَ ،
فمنْ سيُكفكفُ حزنَ السماءِ ودمعَ القصائدِ
حين تغيبُ المليكةُ ؟
من سيُجهّزُ للموت رقصَتَهُ ؟
شحّت الغيمةُ المَطَريّةُ /
والموتُ يجلسُ في حالة القُرْفُصاءْ
فمن يرتدي الآنَ ثوبَ الفضيلةِ
في غابة الشعراءْ ؟
ومن سيُهَدهِدُ وُجْنَةَ جرزيمَ، يَنْفضُ غربتَهُ
حين تنأى الأغاني
ويبقى على عُرْيِهِ اللّحنُ مُتّشحاً بالذُّهولِ ؟
ومن سيُحرّرُ ناصيةَ الأبجديّةِ
من صَدَأ الكلماتِ ؟
ألفصول تُخالفُ ميقاتَها
والطريق الذي عمّدتْهُ الأناشيدُ بالخطوِ
ينسى ملامحَهُ /
………………..
وحدكِ الآنَ
لا /
لستِ وحدكِ ..
حولكِ أسماؤهم
وامتدادُ روائِحِهمْ في الترابِ ،
وأصداؤهم
فهل نسيَ الوجْهُ دُرّاقَهُ ؟
سفرٌ مَرْحَليّ، إذاً ،
ومراسمُ للدفنِ، أضرحةٌ تستلذّ بأسرارِها
في عباءاتِ جِرْزيمَ ،
يفجؤها عبءُ نفس السؤالِ
ـ إلى أينَ ؟
يُبْهِرها عبءُ نفس الجوابِ
الصدى ممعنٌ بالبياضِ ،
فهلاّ نَفَضْتِ عن الثّوبِ خيطَ الأفولِ
لنشربَ حتى الثمالةِ من لذّةِ القاعِ ،
نُهْدي العصافيرَ ألوانَها القُزَحيّةَ
نَغْفو على حنطةِ الأرضِ سبعَ شموسٍ ،
نُسيّجُ رائحةَ الراحلينَ
ونُصغي لأنفاسِنا في الرّمادِ ..
ونُسْلِمُ راحاتِنا للرّذاذِ الإلهيِّ
( أيُّ رذاذٍ يُغذّي أصابِعَنا
ثمَّ يُثمر معجزةً بعد سبعِ شُموسٍ، وموتٍ ؟)
نصلّي لنَخْلِتنا ..
كي تَدُلّ علينا الرّياحَ
ونبدأ من خُضرةِ السّعفِ :
لا موتَ يُرْخي حماقَتَهُ
أو جداراً يضجُّ بأقفالهِ ،
أو أعاصيرَ تقتلعُ الصّوتَ
ما من أيائلَ مشدودةِ الجيدِ تَسْتُر أوجاعَها ..
ألقصيدةُ أوحَتْ بمعجزةٍ
لا قرابينَ فيها
ولا زَلْزَلَهْ ..
فمن يفتح الآن بابَ الصباحِ على الأسئِلهْ ؟
وحدكِ الآنَ
لا
صرتِ ضِرْعَ البساتينِ
أشجارَها ،
وروائِحَها الملكيَّةَ
نهرَ عصافيرها المُتَرَقرقِ ،
صرتِ غناءَ الحواكيرِ
يَقْطُر ،
حول البيوتِ العتيقةِ
لم يبتعدْ صوتُكِ المُشْتَهى عندَ مفتَرقِ العمرِ،
لم أبتعدْ عند حزني
ولم أتحسّسْ حمامةَ عينيكِ، بعدُ ،
لكنني منذ ألقَتْ عليَّ السكينة بُردَتها
في دُوارِ الكتابةِ ،
كنت أزخرف غيم البدايات وحدي ..
فيرتجّ ماءٌ
يمرّر فوق التراب عيون تراتيلهِ
كنت وحدي
أعاقر ليل الأساطير تأتي على حين أغنيةٍ
أستضيفُ حقولاً
وأرضَعُ من صدركِ الحرِّ شَهْدَ الحليبِ المقدّسِ
يا أُمُّ ..
صدرُكِ لي وطني المعنويَّ ..
فمن سيفجّر نهرَ العصافيرِ
أو سيزيح الستارةَ عن وطنٍ في وداعةِ أنثى ؟
وحدكِ الآنَ
يَزْهو بعينيكِ ما تشتهيهِ الفراشةُ
من أُلفةِ الضّوءِ
أو شَهوةِ المستحيلْ .
يترقرقُ كالجدولِ الفذِّ صوتُكِ
يا امرأةً صوتُها دينُها..
يجلسُ الموتُ في حالةِ القُرْفُصاءْ
بينما..
يقف الشّعرُ في حالةِ الكبرِياءْ .
(طولكرم / فلسطين)