مذكرات أحمد الطراونة
كتب : أ.د. عصام سليمان الموسى
كتاب (رحلتي مع الأردن) لمؤلفه السياسي الأردني المرحوم أحمد الطراونة يقدم مذكرات صريحة وجريئة تروي أحداثا عشنا بعضها دون ان نعرف تفاصيلها الدقيقة وكيف كان يتم اتخاذ القرار على أعلى المستويات بشأنها، مثل اقالة كلوب باشا وأحداث أيلول عام 1970.
وها هي المذكرات التي كتبت بعاطفة صادقة تبسط صفحاتها للتاريخ، فنطالع أدق التفاصيل المتعلقة بالساعات التي سبقت المواجهة في أيلول واجتماع كبار المسؤولين في قصر المغفور له الملك الحسين في الحمر، وكيف كانوا يفترشون الأرض، وينامون بملابسهم، واقتصر طعامهم حين اشتدت الأزمة على تناول (الحلاوة والخبز) بعد ان سدت المنافذ الى الأسواق لابتياع المواد الغذائية. بل ان قصة وصول الوزير الطراونة نفسه الى قصر الحمر بسيارة فوكس من منزله جهات الدوار الثالث مخترقا الحواجز التي اقيمت حوله هي مغامرة شجاعة بحد ذاتها تبين مدى تفانيه وإخلاصه.
أحمد الطراونة من مواليد عام 1920 وحين توفيت والدته وهو طفل تربى في رعاية جدته في بيوت الشعر، ثم نقله والده الى مدينة الكرك حيث التحق بالكتّاب وأنهى دراسته الثانوية في السلط، وبعدها حصل على بكالوريوس في الحقوق من الجامعة السورية ليعين قاضيا في الطفيلة. وكانت الرحلة من الطفيلة الى الكرك على ظهر الدواب تستغرق عشر ساعات.
في الطفيلة عاتبه المغفور له الأمير عبد الله الأول ابان زيارة تفقدية نتيجة معلومة خاطئة بشأن حكم قضائي قيل للأمير انه صدر عن القاضي أحمد، وحين اكتشف الأمير الخطأ الحاصل طيب خاطر أحمد بطريقته الخاصة اذ دعاه للعب الشطرنج معه. وكانت تلك بداية العلاقة التي حولته الى سياسي وذلك بعد نجاحه في الانتخابات النيابية في سن الثلاثين، فخدم ثلاثة ملوك (المغفور لهم اصحاب الجلالة: عبدالله وطلال والحسين).
وخلال حياته السياسية تسلم مناصب وزارية عديدة منها: وزيرا للزراعة وللدفاع وللتربية والتعليم وللمالية ورئيسا لقناة الغور الشرقية ومستشارا للملك ورئيسا للمجلس الوطني الاستشاري ولمجلس النواب ولمجلس الأعيان و للديوان الملكي، وسفيرا يحمل رسائل الملك الى رؤساء الدول، وغير ذلك من مناصب حساسة.
يكتشف القارئ حرص الطراونة على التمسك بالنصوص القانونية والدستورية، وهو الذي ساهم في وضع الدستور الأردني، ودستور الاتحاد العربي مع العراق. وكان صديقا للشهيدين هزاع المجالي ووصفي التل. بل انه كان في مكتب هزاع المجالي وغادره قبل الانفجار الذي أودى بحياة المجالي بدقائق قليلة وأسكن أسرته في منزل وصفي التل ابان أيام أيلول العصيبة التي حرق فيه منزله. ونستشعر قلقه على ولديه هشام وفايز اثناء دراستهم في الجامعة الأردنية ابان أحداث أيلول. وها هو ينتقد القضاء المصري الذي لم يدن قتلة وصفي في القاهرة بشدة بعد ان القي القبض على قتلته وسمح لهم بالخروج من السجن بكفالة ألف جنيه للواحد، واصفا ذلك الموقف بانه «وصمة عار في جبين القضاء المصري» (ص 255).
تروي المذكرات أيضا بالتفصيل دقائق الإتحاد مع العراق ويبين كيف تنازل الحسين لابن عمه الشهيد فيصل الثاني ليكون رئيسا للاتحاد، ورضي الحسين بان يكون نائبا وكل ذلك في سبيل مصلحة الوطن، وتم ذلك يوم 14 شباط 1958.
والمذكرات تنتقد بجرأة اولئك السياسيين الذين كان همهم مصالحهم الخاصة وليس «مصلحة البلد» (ص 296). وقد كُرست الفصول الأخيرة من الكتاب للحديث عن «الحسين الباني، وابراهيم هاشم شيخ الرؤساء، وتوفيق ابو الهدى رجل الحكم، وسمير الرفاعي رجل الدولة». واعترافا بخدماته الجليلة وتقديرا لشخصه كرمه الحسين ومنحه أعلى وسام اردني يعطى عادة لرؤساء الدول، ووصفه بانه «أصيل ويبقى أصيلا» (ص 294).
من ناحية أخرى يقدم الكتاب صورة حية عن كيف كانت الحياة متواضعة في بدايات الأردن، وثم قصة بناء الوطن حتى في أحلك الظروف وأصعبها.
وفي الخلاصة: انها مذكرات رجل اردني شجاع احب وطنه وأخلص لمليكه وصارحه بالامور ، تروي بأدق التفاصيل كيف تمت الأحداث وكيف كان يتم اتخاذ القرار الصعب بشأن التعامل معها ساعة بساعة.