معروف البخيت .. ملح الأرض وقمح البلقاء .. !!
د. طلال طلب الشرفات
منذ فترة وأنا أتجنب الكتابة لأسباب متعددة ليس أقلها حالة انفلات الفهم في كل ما يجري على الساحة الوطنية، والقلق المتراكم من انزلاق المشهد العام الى مستويات مؤلمة؛ حذرنا منها كثيراً ونصحنا أكثر، واقع زرع بذور الإحباط في كل ما هو جميل في الوطن، وأضفى صورة قاتمة على كل انجازات البناة الأوائل والتابعين؛ عندما انجزوا بناء الدولة وصون الهوية، وتأهيل قيادات وطنية مخلصة تأنف العبث بقيم الشعب، أو الاستعانة بالأجنبي بتمويله وسفاراته التي أضحت بؤراً للجاسوسية، وتنفيذ المؤآمرات الإقليمية، والدولية وتحييد القيادات الوطنية المخلصة.
معروف البخيت “الباشا” الجندي المنضبط، والوطني المخلص، والأكاديمي، والباحث المبدع، والسياسي الهادئ المتواضع، ورجل الدولة الكبير يرقد هذه الأيام على سرير الشفاء بعد أن استبد به التعب وهو يراقب المشهد المرتبك، والمخاطر الحقيقية على الوطن بصمت وعفوية الأردني المنتمي، والمدرك بوعي أن الشمس الأردنية ضرورة لخلود الوطن، وأن لون القمح لا يمكن استبداله بالكافيار، وأن الجباه السمر؛ ستبقى الحارس الأمين للهوية ومقدرات الكرامة الوطنية الناجزة.
في الربيع العربي كان رئيساً للحكومة، وكنا في لجنة الحوار الوطني نضع لمسات الأفق الديمقراطي المنشود، وقواعد الإصلاح في قانون الانتخاب، وقانون الأحزاب، والمحكمة الدستورية، والهيئة المستقلة للانتخاب وتعديلات دستورية ضرورية؛ لترسيخ قواعد الاصلاح السياسي، في ذلك الوقت قدم دولة البخيت إنموذجاً راقياً لرجل الدولة في احترام خيارات القوى السياسية، والمنظمات الاجتماعية، وقد أدى ذلك إلى نزع فتيل الأزمة، وسحب البساط من تحت كل الذين كانوا يراهنون على انهيار الأردن من أعداء الداخل قبل الخارج وقتذاك.
البخيت رجل ديمقراطي يعطي لوزراءه مساحات للعمل، واتخاذ القرارات الملائمة ولمجلس وزراءه دور فاعل في تقرير الشأن العام، ولا يمارس ادواراً خفية، أو مشاعر مزدوجة غير منتجة، ولم يكن بحاجة لمسافات آمنة مع أحد؛ لأنه لا يقول إلا بما يحس به فعلاً، ولا يقرر إلا ما يؤمن به ويقتنع، وأذكر ان وزير الداخلية في حكومته معالي مازن الساكت – وقد كان عضواً في لجنة الحوار – قد مارس أدواراً سياسية مهمة في اللجنة لم تكن بالضرورة منسجمة مع توجهات الحكومة، لكنه كان يملك الحرية للفصل بين موقعه كوزير للداخلية، ومهمته كعضو في لجنة الحوار الوطني.
البخيت أردني عتيق، ووطني نبيل زاهد في جمع الثروة، وعاشق لخبز الصاج و”الرشوف”، ومن تلال ماحص يرقب ثرى القدس، ومآذن الأقصى، مخلص للتراب والهوية، والعرش، هو يشبهنا ولا نحتاج معه إلى تفاسير لأحاسيسنا المشتركة، وحتى في غضبنا فهو لا يتجاوز مقاسات العتب والوطن، والأهم من كل ذلك هو أن البخيت ذاكرة وطن في الجند، والتاريخ، والتراب، والدولة، البخيت رجل الدولة المنحاز دوماً للحقيقة، والفقراء والشهداء، وأمنيات الغد الأردني الجميل.
الذين يعتقدون أن الهوية الوطنية هي عقبة في المناخ الديمقراطي لهم فهمهم ولنا فهم آخر؛ فالأردن الحبيب الذي بني بالحب، وشيّد بنبل الأوائل، وحرص الزاهدين باستمراء المال العام، والانفراج الذي نرنو إليه لا يتناقض فيه الحداثة، والحفاظ على الهوية الأردنية؛ التي لا نتخلى فيها عن الحداء، وذكريات الأمس العتيقة من شيحان، وحسبان، والشرف في القدس والكرامة، وملاعب الصبا في ماحص، والعالوك، والربة الخالدة التي ياتي دوماً منها النداء الأصيل.
معروف البخيت ملح الأرض، وقمح البلقاء قامة باسقة تنثر رائحة النبل، والخلود الأردني الجميل، نسأل الله له الشفاء العاجل وأن يخرج سالماً معافى؛ لنستلهم من خبرته، وسيرته، وسريرته ترياق الأمل للوجع القادم من هنا وهناك، عودة بحجم النبل، والوفاء وترعاه فيها عناية الرحمن.