منتدون عرب وإسبان يناقشون كتاب د. صلاح جرار “الجوانب المنسية في الحضارة الأندلسية”
د. جرار: إنجازات منسية تتكامل مع الإنجاز الأندلسي المشهور وتضيف للمنجز البشري
د. أبوحمور: الأندلس نموذج متقدم في الفكر والعلم والتنوّع الثقافي وبناء الصرح الثقافي
بن عيسى: التجربة الحضارية الأندلسية اتسعت وتعمقت لتصبح ذات محتوى إنساني عظيم
خوسيه ماريا: التراث المشترك يستحق أن نستعيده جميعاً وزيادة الاهتمام به أكاديمياً
باحثون ومتخصصون : الكتاب يرتاد آفاقاً في البحث عن جوانب الابتكار والإبداع وسابقة الأندلس في مجالات مختلفة وضرورة تعزيز قيم الاهتمام والاعتزاز بالتراث لدى الجيل الشاب
عمّان – ناقش عدد من المثقفين والأكاديميين والدبلوماسيين من الجانبين العربي والإسباني في لقاء نظمه منتدى الفكر العربي، عبر الاتصال المرئي يوم الأربعاء 17/6/2020، أبعاد التجربة الحضارية الأندلسية وأصدائها في المعرفة الإنسانية، في ضوء محاضرة لأستاذ الأدب العربي وأدب المغرب والأندلس في الجامعة الأردنية وزير الثقافة الأسبق وعضو المنتدى د. صلاح جرار حول مضامين كتابه الجديد “جوانب منسية من الحضارة الأندلسية”، الصادر حديثاً عن دائرة الثقافة والسياحة – دار الكتب في أبوظبي، وأدار اللقاء وشارك في النقاش الأمين العام للمنتدى وزير المالية والتجارة والصناعة الأسبق د.محمد أبوحمور.
وأوضح د. صلاح جرار أن الدارسين للتراث الأندلسي من العرب والإسبان والأوروبيين وغيرهم، اعتنوا بما خلّفه العرب من حضارة عظيمة ما زالت آثارها ماثلة إلى اليوم في خزائن العلم الزاخرة بمؤلّفات الأندلسييّن ذات المجالات المتنوّعة، والآثار العمرانية البديعة مثل قصر الحمراء بغرناطة والمسجد الكبير في قرطبة والجيرالدا في إشبيلية وغير ذلك. لكن في غمرة انشغالهم بالمستوى الحضاري الرفيع الذي بلغه الأندلسيّون في العمران والهندسة والطب والموسيقى والفلاحة والصناعة وسائر العلوم، غابت عن أنظار الدارسين والمؤرّخين بعض جوانب الحضارة الأندلسيّة، أو كان التفاتُهم إليها التفاتاً عابراً، وذلك لقلّة ما ورد عنها من معلومات في المصادر الأندلسيّة.
وأضاف د. جرّار أنه وقف في كتابه الجديد عن الجوانب المنسية على جوانب لافتة للنظر تمثّل في مجموعها إنجازاً حضاريّاً أندلسياً يتكامل مع المنجز الحضاري المشهور، في إطار أن كلّ إنجاز بشري فردي أو جمعي، مادي أو معنوي، عملي أو نظري، يحمل إضافة للمنجز البشري السابق أو تطويراً له، ويصب في خدمة الفرد والمجتمع وبني الإنسان، وله انتشار عبر المكان أو الزمان أو كليهما.
كما أوضح د. جرّار أنه اعتمد في كتابه على ما ورد متفرقاً في المصادر التاريخية وعلى صدى تلك الجوانب وظلالها في النصوص الأدبيّة من شعر ونثر وموشحات، وهي مصادر مهمة تساعد في تجلية صور الحضارة الأندلسية، وتعزز وظيفة مهمة من وظائف الأدب هي تصوير حياة المجتمعات والشعوب عن قصد أحياناً وعن غير قصد في أحيان كثيرة.
ومن الجوانب الحضارية التي يتناولها هذا الكتاب: صور مدهشة من مجتمع المعرفة، ونموذج من أنظمة وممارسات سياسية اقتصادية متقدّمة، واستعمال الأندلسيين للعربات، ومصارعة الثيران في الأندلس، وقوانين المحافظة على البيئة كشفت عنها كتب الحسبة، وأسبقية الأندلسيين في استخدام خيال الظل، وقبة عباس بن فرناس الفلكية، وتدريب الطيور على الكلام، والرقص على الحبال، واستخدام البارود والمدافع، والحركة العلمية في قرطبة في عصر الخلافة ودورها في حوار الثقافات. ووقف هذا البحث عند قضايا المرأة من خلال مبحثين: الأول عن شخصية المرأة الأندلسيّة من خلال شعرها، والثاني عن كريمة المروزية شيخة علماء الأندلس في القرن الخامس الهجري .
ومن جهته قال الأمين العام للمنتدى والوزير الأسبق د. محمد أبوحمّور في كلمته: إن التجربة الحضارية الأندلسية تشكل أحد المحاور المهمة لأنشطة منتدى الفكر العربي، من منطلق الرؤية بأن هذه التجربة تعد من أهم تجارب التاريخ العربي والإسلامي والعالمي؛ بوصفها نموذجاً حضارياً وفكرياً متقدِّماً تجلّى في مجالات استثمار التعدّد والتنوّع الثقافي في المجتمع، وإعلاء شأن العلم والعلماء، وتشييد الصروح الثقافية والعلمية والحضارية. كما أنها تشتمل على نماذج المشاركة الحضارية والتعدد الثقافي بين العرب والأمازيغ والإسبان.
وأشار د. أبوحمور إلى رعاية رئيس المنتدى صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال المعظم وتوجيهاته بخصوص تعزيز مسار الحوار بين الثقافات والحضارات، ومنها الحوار العربي – الإيبيري – الأميركي اللاتيني والدراسات الأندلسية، والعديد من الأنشطة التي نظمها المنتدى سواء على المستوى الدولي بالتعاون مع مؤسسات مغربية مثل مؤسسة ابن الخطيب في فاس ومؤسسة مكتبة تراث الأندلس “برادكيما” في إسبانيا، واستضافة محاضرات لمستعربين إسبان كبار وأخرى لباحثين متخصصين في الدراسات الحضارية والأدبية الأندلسية من الجانب العربي . وقدم د. أبوحمور الشكر للسفارتين الإسبانية والمغربية في عمّان على تعاونها المستمر في هذا المجال، وكذلك لمؤسسة منتدى أصيلة الثقافي الدولي في المغرب .
وفي مداخلته أكد الأمين العام لمنتدى أصيلة ووزير الخارجية والتعاون والثقافة المغربي الأسبق وعضو مجلس أمناء منتدى الفكر العربي الأستاذ محمد بن عيسى، أهمية بعض التعاريف في وصف التجربة الحضارية الأندلسية بأنها لم تكن عروبية وإسلامية وحسب، ولكنها اتسعت وتعمقت لتصبح ذات محتوى إنساني عظيم، كما أن الحديث عن الأندلس لا يكتمل دون البُعد المغربي مما كان يطلق عليه سابقاً العدوتين أي الامتداد الحضاري بين أرض الأندلس وأرض المغرب، فضلاً عن أن هذه التجربة اتسمت بالثراء والابتكار وهناك الكثير مما أينع في الأندلس وأكسبها خصوصيتها ولم يكن مما عرف بالمشرق.
ودعا الأستاذ بن عيسى إلى التفكير في سلسلة من الأنشطة حول الأوجه المضيئة في الحضارة الأندلسية، ومنها على سبيل المثال الاجتهادات الفلسفية المتقدمة التي قام بها فلاسفة الأندلس مثل ابن رشد وابن طفيل وغيرهما، والموسيقى التي يُقال أن عباس بن فرناس هو أول من كتب الموسيقى السولفيجية المتعارف عليها، والمقامات الأندلسية التي قامت على أساسها مقامات الموسيقى الغربية الكلاسيكية، والزراعة التي كانت مزدهرة إيبيرياً ومغربياً وما تزال مصطلحاتها تستعمل في اللغات اللاتينية مما يتعلق بالري والنباتات والحرث والمزروعات والحياة الاجتماعية التي لا نعرف عنها الكثير، ومما احتفظ به منها المهاجرون إلى تطوان وشفشاون وفاس، ثم بعد ذلك الموريسكيون القادمون إلى الرباط وسلا في المغرب .
وشارك في هذا اللقاء نائب السفير الإسباني في الأردن السيد خوسيه ماريا دابو كابرا، الذي أشاد بما تضمنته محاضرة د. جرار من تسليط الضوء على أمور منسية وغير معروفة حول الحياة الاجتماعية والثقافية في الأندلس وإسبانيا المسلمة . وأكد السيد كابرا أن هذا التراث المشترك يستحق أن نستعيده جميعاً، معتبراً جهود د. جرّار البحثية تصب في هذا المجال، ضمن سلسلة من الجهود ساهم ويساهم فيها أجيال من المستعربين والمستشرقين الإسبان مثل ميغيل آسين بلاثيوس (1871-1944)، وإيميلو غارثيا غومث (1905-1995)، وغيرهما كثيرون، إلى جانب الباحثين المغاربة والمشارقة وفي العالم، مما يؤكد تطور الاهتمام بالتراث الأندلسي لدى هؤلاء ولدى المثقفين والأدباء في الثقافة الإسبانية الحديثة والمعاصرة التي شهدت خطوات متسارعة في زيادة الاهتمام بالدراسات الأندلسية على المستوى الجامعي والبحثي الأكاديمي منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي .
وقال د. محمد سعيد حسب النبي أستاذ اللغة العربية وآدابها في جامعة أكتوبر بمصر: إن هناك حاجة إلى مزيد من كشف الجوانب عن دور المرأة في العصر الأندلسي، وخاصة في الإجابة عن السؤال حول ما حدث في العصور اللاحقة وأدى إلى تراجع هذا الدور . واقترح أن تكون هناك توصية من المنتدى إلى وزراء التربية والتعليم والتعليم العالي في الدول العربية لإضافة كتاب مرجعي ضمن المناهج لتعزيز القيم التراثية والاعتزاز بهذا التراث بما فيه التراث الأندلسي وغرسها في نفوس الشباب العرب .
ودعا الأكاديمي والمحقق د. بشار عواد معروف من العراق في مداخلته إلى الاعتبار بما جاء عن الإنجاز الحضاري الأندلسي في كتاب د. جرّار والتفكر بالمجد الذي كانت عليه حضارة العرب مما يدفع ما دخل عليها من شعوبيات ومتاهات العولمة التي ابلينا بها في عصرنا الحالي؛ مشيراً إلى أن بحوث الكتاب توقظ الغافلين عن مآثر قومهم، وقد اتسمت بجمال العرض من خلال أسلوب أدبي قائم على البحث العلمي الرصين .
وأشار أستاذ النقد والأدب العربي والحضارة الإسلامية في جامعة سيدي محمد بن عبد الله د.عبد الله الغواسلي المراكشي من المغرب إلى قضية البكاء على الأطلال وتمجيد الذات عند دراسة أدبيات الحضارات، وهي تقنية لجأت إليها الأمم التي عانت من أزمة حضارية ومنهم الأوروبيون أنفسهم بدافع استشراف الأمل في الناشئة من أجل انطلاقة حضارية جديدة . كما أشار د. المراكشي إلى تأثير المذهب المالكي الذي كان منتشراً في جميع الأندلس مع نهاية القرن الثامن الهجري في مصادر القانون الفرنسي منذ عصر نابليون وحتى الوقت الحالي، وهو وجه من أوجه تأثير حضارة الأندلس في أوروبا .
وأشادت الباحثة والمحققة الأكاديمية د. ابتسام الصفار من العراق بمنهج د. جرار في البحث، وما أبرزه من تجليات حضارية في إبداعات الأندلس المتنوعة في العلوم والفنون والآداب .
وتناولت باحثة الدكتوراة في الأدب الأندلسي بالجامعة الأردنية هدى الشمري من قطر أسبقية الأندلسيين في حقول العلوم المختلفة والتكنولوجيا والابتكارات، مؤيدة كلامها بما ورد في بعض المصادر العربية من تأكيد على نشاط أهل الأندلس وإقبالهم على تعلم العلوم واكتساب المعارف.
وبينت الباحثة في الدراسات الأندلسية وتاريخ الاستشراق د. رشأ الخطيب من جانبها أن المشرق اليوم يشهد اهتماماً أكاديمياً جامعياً في دراسة حضارة الأندلس، وهنالك العديد من أعلام الباحثين والأكاديميين والمؤتمرات والندوات في هذا المجال، ولم تعد الصورة السابقة عن ضآلة الاهتمام بدراسة الأندلس موجودة . كما أشارت إلى المنهج العلمي الاستقصائي لكتاب د. جرار وجهده في التنقيب والبحث المدعم بالمصادر والنصوص والذي لم يتأثر بالميل العاطفي المعتاد تجاه الأندلس.
وذكرت رئيس قسم اللغة الإسبانية في الجامعة الأردنية د. رناد المومني أن هنالك أعمالاً لمستعربات إسبانيات معاصرات عنيت بالوجود النسوي في الأدب الأندلسي، مما يؤكد دور المرأة الأندلسية في العلم والإبداع والمشاركة في الحياة الثقافية .
وأشار أستاذ الأدب العربي في الجامعة الهاشمية د. عمر الفجاوي إلى القضية الجدلية المتعلقة بما استقر في الأذهان حول أثر المشرق في الأدب الأندلسي؛ مشيراً إلى أن كتاب د. جرار لا يؤكد هذه الفكرة بما أورده من نماذج أدب الأندلس وخصوصيته في بيئته .
واختتمت أستاذة الأدب العربي في جامعة الأميرة سمية للعلوم والتكنولوجيا د. شيرين جاد الله المداخلات بقولها: نحتاج اليوم أن ندرك بأن الجوانب المنسية من الحضارة الأندلسية تؤكد أن الحضارة كامنة في الإنسان أكثر من الزخرف والبنيان، ويحتاج العالم العربي اليوم بشدة أن ينجز كما أنجز الأندلسيون حضارة عظيمة وكما إنجازات غيره من الحضارات ليثبت جدارته وتميزه.
يذكر أن فيديو التسجيل الكامل لوقائع هذه المحاضرة والمداخلات حولها وغيرها من تسجيلات الأنشطة بالصورة والصوت عن بُعد متاحة على قناة منتدى الفكر العربي في “يوتيوب” وعلى موقعه الإلكتروني www.atf.org.jo .