أديب حسن محمد
ناقد وشاعر سوري
ما من شك أن النضج في الشعر لا يتأتى بالسهولة التي يتخيلها البعض من عشاق التقليد والكم، فالشعر عملية خلق جديدة لجزيئات صغيرة متراكمة في وجدان الشاعر، عن طريق لغة متجاوزة باستمرار للمنجز، لغة لا تركن إلى نجاح، ولا يغريها مديح وإطناب.
ويحتار النقاد عادة في تفسير ألق الشعر،وسحره،…
ما الذي يجعل موضوعة معينة قابلة للتوهج بين يدي شاعر أكثر من غيره؟؟
هل هي خبرته مع الشعر؟؟
هل هي الدراية باللغة؟؟
أم تفرعات الموضوع ووقعه النفسي الخاص الذي يتيح للشاعر تفجير ينابيع وجدانه؟؟
الشاعر الأردني موسى حوامدة في مجموعته الشعرية”سلالتي الريح..عنواني المطر”الصادرة في طبعة جديدة عن دار الشروق في عمان.
يبدو شاعراً عائداً إلى الطبيعة والبداهة بوصفها فعلاً تغريبياً وفق المقاييس الحالية للعصر، شعره مؤلم لأنه يوقظ فينا الإحساس بالفجيعة والندم…الفجيعة في تسطح العالم، والندم على حياة لم نعشها كما يجب:
” هنا دمعُه المتدفق
هنا ماؤه العذبُ
هنا جنَّته الضيقة
هناكَ خلفَ اللاشيء
بنى للكلماتِ قبرَها وللغيابِ وَصاياه.”……….ص4
هكذا يهز الشاعر شجر الرثاء، رثاء والديه، وكل الذي ينشده أن يفسحا له قبراً صغيراً بينهما، هنا في حالة الرثاء تحديداً يشفّ الشعر حتى يكسر فيزياء الكون متجهاً إلى مسلكين محددين:
تكسير هيبة الطبيعة وتجريدها من غيبياتها لتغدو مادة صالحة للصراع وللمحاورة النديّة..
ترويض الروح لاجتياز حواجز الكينونة البشرية المحدودة لمحايثة الأبعاد الغيبية للطبيعة
وإذا كان الخيال هو سلاح الشاعر الأمضى في هذه المواجهة غير المتكافئة، فإن إنتاج خيال مثمر هو من مهام الشعر الصعبة، وكمثال من الشاهد السابق ننتقي آخر صورتين شعريتين: بناء قبر للكلمات، ووصايا للغياب..
فإذا كان بناء القبر ممكناً ولو من الكلمات كون القبر قابلاً للبناء أصلاً في تعاقب الحياة المألوفة، فإن بناء هيكل للوصايا من خامة الغياب صورة شاطحة وموغلة في اللامعقول، ومع ذلك تؤتي سحرها ضمن السياق الصوريّ للمقطع.
إن الخيال مادة مبذولة في أية قصيدة، لكنه عنصر شديد الحساسية وقابل للانقلاب على مقصده في أية لحظة شرود عن الرؤيا الشعرية المتكاملة للنص…
” الذي لَمْ يودعْ النهارَ
حَمَلَ عَتمَته وطارَ،
الذي لم يعرفْ الأبيضَ
كَسَرَ الليلَ شظايا
هيَّأَ مأدبةَ الضياء
ثم أظلمتْ عيناه!”……ص5
توظيف المتناقضات يتم بحرفنة، بحيث يتشكل مشهد يتعاقب فيه الأبيض والأسود، ويولد الضياء من رحم الظلمة، أو العكس: النهار والعتمة، الضياء والظلمة..
لتوليد مشهد النهاية الإنسانية: إغماض العينين للأبد…
يستطيع الشعر هنا الذهاب لأقصى التأويل وأقصى الوقع والتأثير في آن..
وهي معادلة صعبة التحقق ما خلا السوانح الفذّة التي تنطلق كشرارات بارقة من روح الشاعر، لتضيء القصيدة وما حولها من هالات تنتشل الروح من رتابتها وتطلقها في فضاء لا محدود، تسبح فيه متحررة باتجاه مطلق ترومه……..
مضى نحوَ بابِ الخطيئةِ طفلُ الحرمان
مضى يَجرُّ أذيالَ الخليقة
يطوي الكتابَ على عجلْ
تباركَ الجنون
تباركت المخلوقات
تباركَ سعيُ المحرومين
للقاء الكثبان،
تباركَ شلالٌ غامضٌ
ينبعُ من بحيرات الحسرة.”……..ص8
هذه الإحالات إلى الملحمية كثيراً ما ترتفع بالشعر، وتحيله إلى مادة قابلة للخلود، مسترجعة خوابي الذاكرة: صبواتها وانكساراتها، وساعية لبناء عالم آخر غيبيّ، تجهد في لملمة تفاصيله، وبناء أشيائه، في محاولة لتبديد القلق المصاحب لأسئلة الوجود الممضة، إن هذا القلق هو البركان الذي يغلي تحت القصائد، وهو الذي يحرّض حمم التعابير في أقصى اندفاعاتها لتبرّر حجم الألم، والعجز، وربما الندم على فخ لم يدخله الشاعر بإرادته…
” لستُ عارفاً مطالعَ الفُلْكِ ولا مغاربَ الخلق
بدأتُ أعتادُ الدهشة
وأتجلَّى في مراياي!”……….ص14
إن الشك هو أهم ما يميّز مُنْتَج الشعر هنا، وهذا الشك ليس سلبياً بالضرورة، ليس شكّ الضعيف الذي لا حول ولا قوة له إزاء جبروت المعادلات الكونية الصارمة، بل هو شكّ فاعل مهمته الأولى تكسير الحواجز بين الأشياء: قويّها،وضعيفها…
ظاهرها،وباطنها…
قبيحها وجميلها،
في محاولة لإعادة الكون إلى بداهة بُنيَ عليها في البدء، وأضاعها شيئاً فشيئاً فيما بعد.
إن “اعتياد الدهشة” في المقطع السابق هو قمة الخيبة، قمة التشيّؤ، وفقدان الإحساس ببهجة الحياة، وبسر جمالها، هو أشبه بمحاورة اليباب، والعدم، وفي هذه اللحظة البائسة يستعيد الشاعر نقطة انبثاق الروح بعد وصولها إلى منتهى العبث، مما يشكل صدمة هائلة تجعل استعادة جوهر الروح وبداهتها أمراً ضرورياً لاستعادة الذات الضائعة.
ومن مهام الشعر إيقاظ أحاسيس الإنسان الخبيئة، إيقاظ معرفة دفينة بالأشياء هي غير المعرفة المألوفة بطبيعة الحال، بل هي معرفة تصاحبها لذّة الكشف، والريادة، فالشعر إن لم يستطع هذا الفعل الكشْفيّ يبقى مجرد لعبة لغوية قابلة للضمور والتلاشي بعد قراءة أولى، ويبقى رهن المرسل دون أي تفاعل يُذكر من المُسْتَقبِل الذي هو المعنيّ الأول بفتنة الشعر، وبفك مغاليق فنيّته العالية.
إن الانطلاق من أمكنة مألوفة ومحسوسة إلى المكان الشعري أمر يسترعي الانتباه في هذه المجموعة، هذا المكان الشعري يعوّض نواقص الأمكنة الدنيوية المألوفة، بحيث يقوم المكان الجديد باحتضان ما يشتهي الشاعر من عصارة الحلم والخيال، وهو ليس مكاناً يوتيبيّاً بقدر ما هو مكان شاسع لا يصادر شيئاً من هوامش الروح وتفاصيلها التي لا تتجسّد جملة واحدة في الحياة الدنيوية، وقد يغدو المكان الشعري أرضاً خصبة لرسم ملامح جديدة للنفس، بحيث تتحقق شروط الحرية الكاملة التي لا تعترف بفواصل وفروقات جوهرية بين مكوّنات المكان الجديد…
” الطوطمُ الأزليُّ يُسرعُ في رَحْم الفكرة
أنْحَني لمليكتي
أجلسُ بين عينيها ونشوةِ البنفسج
تصيخُ الطرقاتُ سمعاً لمُناجاةِ القُرنفل
ترتوي شفتايَ من حليبٍ قديمٍ قديمْ،
تحت داليةِ السماء
يجلسُ إلهٌ صغير
يديرُ خَمرةَ الحُبِّ لوجهِ الجِناية.”……..ص15
هكذا يغدو الشعر عملاً خلاّقاً يعيد بناء العالم، في ترتيب شعريّ قادر على التمدّد بعد كل قراءة جديدة، وهو فعل ديناميكي يقدّم عالماً متحركاً يتشكّل باستمرار وفق المخزون المعرفي والثقافي للمتلقي.
فالشعر معني بما ورائيات الحياة، يبحث دائماً عن حقيقة الأشياء، عن داخلها غير المرئي، وهو بذلك جهد يسبر الدواخل، ويقيم في أقاصي التأويل..أقاصي الدهشة، تلك الدهشة التي تكاد الحياة المعاصرة تسلبها من الإنسان، وهو(الشعر) من جهة أخرى يضيء حزناً مكيناً في الداخل، وهو ليس حزناً مستكيناً بالضرورة، بل هو حزن الحالمين، غير الراضين عن صيرورة المحيط، وبذلك يغدو حزناً خلاّقاً غير مجانيّ، ليس حزناً صرفاً، بقدر ما هو حزن استشرافي يشعرنا بأنّ شيئاً ما في هذا العالم لا يسير على ما يرام..
” بعد عرس وجنازة..
لن تجدي جثةً في قبري
أو شجراً في غابتي،
بعد عامين وحقل من وشاية
لن تجدي ناراً
في موقد الغَضَبْ !”……ص47
هكذا يثبت الشعر إخلاصه لمن يخلص له، فيضيء بين أصابع خزّافيه، وينقاد لخيالات مريديه الجامحة، لا يخذل أفئدتهم التي من هواء رهيف، لا يقلق نومة الموتى، ولا يدير ظهره لأوهام السائرين في ركب حياة ناقصة.
ولعل في هذه المجموعة ما يبعد وهم موت الشعر، وما يثلج الصدور الباقية على قيده والمنتظرة لجماله الساطع في عالم ينحسر فيه الجمال، وتتضاءل فيه الأحاسيس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب:سلالتي الريح..عنواني المطر
موسى حوامده
ط1:دار الشروق ـ عمان الاردن2007
ط2:الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر2010
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم:أديب حسن محمد