د.صلاح العبادي
أعادت إسرائيل استهداف قطاع غزّة المنكوب مجدداً بعمليات عسكريّة موسعة، بعد توقف استمر لنحو شهرين، إثر وقف إطلاق النار الهش الذي كان قد دخل حيز التنفيذ في 19 كانون الثاني الماضي، وسط اشتعال الخلافات بين المؤسّسات الأمنيّة والسياسيّة في تل أبيب.
إستئناف إسرائيل الحرب على القطاع جاء بإطلاع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب صاحب “هندسة التهجير”؛ إذ كانت إدارته بعلمٍ مسبق بالعمليات العسكريّة وأهدافها المتجددة، تحت ذريعة الإفراج عن جميع الرهائن المحتجزين في غزّة، وهو الأمر الذي لم يتحقق أي شيء منه على مدى نحو 471 من الحرب الإسرائيليّة على القطاع في جولتها الأولى.
وتراوح مفاوضات استكمال صفقة إطلاق الرهائن مكانها، إثر عدم حدوث تقدم في مسارها؛ لأنّ نتنياهو يسعى لتفصيلها على مزاجه، ويرفض الالتزام باتفاق الوسطاء المبرم منقلباً عليه، على حساب تعريض حياة الأسرى في غزّة إلى مصيرٍ مجهول!.
خلال الأيام الماضية كان نتنياهو قد أوعز إلى قيادات الجيش الأكثر ولاءًً لشخصه؛ لتحديد الأهداف المحتملة في مختلف أنحاء قطاع غزّة، خلال فترة وقف إطلاق النار؛ ليتم رصدها من جديد استعداداً للهجوم عليه، تحت ذريعة الضغط على حماس.
ولا يستبعد أن تعود إسرائيل لاحتلال مناطق في شمال القطاع؛ لتضييق الخناق عليه، خصوصاً وأنّها سبقته قبل أسبوعين بمنع دخول المساعدات الإنسانيّة والطبيّة والإغاثيّة إليه، الأمر الذي يهدد بكارثة إنسانيّة ستلقي بظلالها على القطاع إلى أمدٍ بعيد.
المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة انقضت منذ نحو أسبوعين، ورفضت إسرائيل بدء المرحلة الثانية التي تعني فعلياً إنسحاب الجيش من محور فيلادلفيا وإنهاء الحرب، وهو ما تتمسك به حماس؛ بعد أنّ أوفت بالتزاماتها في بنود المرحلة الأولى منه.
ويتمسك رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بمقترح المبعوث الأميركي ستيفن ويتكوف، الذي ينص على الإفراج عن 11محتجزاً إسرائيلياً على قيد الحياة، إضافة إلى نصف عدد جثث القتلى الذين بحوزة حركة حماس؛ وهو الأمر الذي رفضته الأخيرة لأنّ “ورقة الرهائن” هي الأخيرة التي ما تزال بيدها للتفاوض مع إسرائيل بقوة. وتل أبيب هي الأخرى رفضت مقترح حماس، الذي يتضمن الإفراج عن جندي إسرائيلي وأربعة من رفات المحتجزين الأميركيين.
وتتفاقم الأوضاع الإنسانية في القطاع مع استمرار إغلاق المعابر وعدم دخول المساعدات إليه لأكثر من أسبوعين على التوالي؛ في وقت تعلو أصوات المجتمع الدولي والمنظمات الدوليّة الإنسانيّة المحذرة من مغبّة وقوع أزمة جوع حادة تهدد سكان القطاع، وسط نقص حادٍ في المواد الغذائيّة والطبيّة والوقود المستخدم في إدامة تشغيل القطاع الطبي المستنزف.
الوضع الحالي في غزّة وصل إلى مرحلة عسكرة المجاعة واسعة النطاق؛ حسب ما قالته فرانشيسكا ألبانيز، مقررة الأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينيّة، والتي قالت إنّ إسرائيل، كقوة احتلال، ملزمة بموجب القانون الدولي بتوفير الغذاء والمستلزمات الطبية للسكان.
ومنذ عام 2006، وإسرائيل تتحكم في المعابر الحدودية للقطاع؛ وتستخدم المساعدات الإنسانية والإغاثيّة والطبيّة كأداة لتغيير مواقف الفلسطينيين السياسيّة في محاولات لفرض الأمر الواقع عليهم، والزامهم بالقبول بما يعرض عليهم، وتقويض الجهود الدوليّة الرامية لحل الدولتين وفقاً للمسار السياسي عادل للقضيّة الفلسطينية.
العودة إلى العمليات العسكرية يعقد جهود الوسطاء في المفاوضات، لأنّ حماس لا ترى في هذه الشروط أي مخرجٍ أو ضمانات لأمن القطاع واستقراره؛ لاسيما وأنّ إسرائيل برهنت للعالم عدم التزامها بأي اتفاق يُبرمُ معها، بل أنّ المجتمع الدولي فقد الثقة بقيادتها السياسيّة.
في ظل تعثر المفاوضات وتفاقم الأزمة الإنسانيّة، يبدو مستقبل غزّة أكثر غموضاً، في وقت يدفع الشعب الفلسطيني الثمن الأكبر، حيث تهدد المجاعة حياة مئات الآلاف من قاطني القطاع المدمر؛ لكنّ المبادرة العربية تبقى أحد الحلول المطروحة لاحتواء المشهد السياسي، رغم أنها تحتاج إلى دعم دولي وإقليمي لتصبح واقعاً ملموساً.
ويأتي قرار نتنياهو بعودة العمليات العسكريّة المكثفة على القطاع، بعد أنّ أثار قرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إقالة رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) رونين بار تصدعاً سياسياً كبيراً في الشارع الإسرائيلي، إذ اعتبر كثيرون من القيادات السياسيّة في تل أبيب أنّ نتنياهو يريد أن يستفرد بصناعة القرار وإزاحة كل من يعارض سياساته؛ خدمةً لأجنداته الخاصة والاستفراد بالسلطة، عدا عن احتجاجات أهالي الأسرى في القطاع.
وأثار تحرك نتنياهو مخاوف من أزمة سياسيّة حادة في إسرائيل، فجاءت العمليات العسكريّة الموسعة في غزّة في وقت تستعد جهات وقطاعات عدّة تخطط للتظاهر قرب مقر الحكومة بالقدس؛ رفضاً لإقالة رئيس الشاباك، الذي علله نتنياهو بـ”استمرار انعدام الثقة” مع المسؤول الأمني، وذلك عقب محاولة مماثلة لإقصاء المستشارة القضائية للحكومة.
وألمح بار الذي دخل في خلاف علني مع رئيس الوزراء خلال الأسابيع الأخيرة على خلفية إصلاحات في الجهاز الأمني، إلى وجود دوافع سياسيّة وراء قرار رئيس الحكومة، وأن سببه رفضه تلبية مطالب نتنياهو بـ”الولاء الشخصي”. المظاهرات ستتزامن مع جلسة الحكومة التي سيعقدها نتنياهو للتصديق على قرار إقالة بار، الذي يحقق في جرائم أمن الدولة المرتكبة في مكتب رئيس الوزراء.
زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد قال إن دولة إسرائيل فقدت ثقتها بنتنياهو، وإنّ الإقالة في هذا الوقت “غير مسؤولة وتدل على عدم الاهتمام بمصير الرهائن”.
وتأتي خطوة إقالة بار الذي شارك في المفاوضات بشأن الهدنة الهشّة مع حركة حماس في القطاع، في وقت حساس بالنسبة للمباحثات بشأن المراحل التالية لوقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في كانون الثاني قبل أنّ تخرق إسرائيل الهدنة فجر الثلاثاء جرّاء عدم التزامها بها.
ولأول مرّة منذ اندلاع أحداث 7 تشرين أول 2023، اجتمع نحو مئة شخصية من قيادات الحراك الاحتجاجي في إسرائيل، وقرروا إطلاق مظاهرة غير مسبوقة في القدس، تعبيراً عن رفضهم لقرار الإقالة.
ومنذ اندلاع الحرب، أقال نتنياهو وزير الدفاع يوآف غالانت، وقدّم قادة عسكريون استقالتهم أبرزهم رئيس أركان الجيش هيرتسي هاليفي.
ويمارس نتنياهو الفوضى السياسيّة والأمنيّة في الداخل الإسرائيلي؛ لأنّه يدرك بأنّ لاشيء يمكن أن يخسره إذا انتهت الحرب التي كبدت إسرائيل خسائر مالية تجاوزت الـ 34 مليار دولار ، بسريان وقف دائم لإطلاق النار في القطاع؛ خدمةً لمصلحته لضمان البقاء في السلطة والفوز في نتائج الانتخابات المقبلة في نهاية العام ٢٠٢٦، دون اكتراث للخسائر الفادحة الأخرى التي تكبدتها مختلف القطاعات الاقتصادية والتجارية في إسرائيل.
مجازر الجيش الإسرائيلي وأعمال الإبادة الجماعية في غزّة خلفت أكثر من 160 ألف شهيد وجريح فلسطيني، معظمهم من الأطفالء والنساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الأطفال والمسنين، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.
ويبقى نتنياهو هو المستفيد الوحيد من هذهِ الحرب للبقاء في سدة الحكم، رغم تهم الفساد التي تطارده؛ ونجح يوم أمس بالحصول على موافقة النيابة العامة الإسرائيلية تأجيل محاكمته على خلفية استئناف الحرب في غزّة!لاى