أ. سعيد ذياب سليم
نفحة من عطر
لا يتوقف بحثنا عن الحب مهما تقدمت بنا السنوات و شغلتنا أحداث حيواتنا اليومية، فعندما تسير على الرصيف متفرجا على واجهات المحلات الزجاجية و ما تعرضه من سلع و حاجات فأنت تبحث عن الحب، و أنت تقف تنتظر الحافلة الصباحية تبحث عن الحب و عندما تجلس على مكتبك في مكان عملك تقرأ الأبراج تبحث عن الحب ، ربما يكون هذا البحث المستمر بحثا عن السعادة تجدها في لحظة تلتقي فيها النظرات بلا موعد تتلمس فيها ابتسامة عابرة توقظ في قلبك حلما لم يزل غضا، هذا البحث المستمر اللاواعي يحدث دون إرادة منا ولا يمكن إيقافه فعندما يتوقف بحثك عن الحب تتوقف عن الحياة، فإذا وجدته تكتشف أن للحياة بعد آخر غير الأبعاد الاربعة التي نعرفها ، ربما ينتظر أن تمر به في أحد المنعطفات فحاذر أن تمر به ولا تراه.
تسللت إليّ رائحة عطر تحمل معها صدى حفلات فرح و بهجة و موسيقى ، نظرت حولي باحثا عن مصدرها، كانت تقف بالقرب مني فتاة أنيقة ممشوقة القوام تحيط بها هالة من أسرار ، تهب من جهتها روائح من زنبق و ياسمين، عينيها سوداوان كليلة شرقية كإحدى ليالي ألف ليلة عابقة بالسحر و الغموض ، اقتربت منها متأملا ، انتبهت لنظراتي فابتسمت برقة كما تبتسم الملائكة ثم أطرقت في حياء و شغلت نفسها بالعبث بهاتفها.
قصائد غزل و لهفة ترددت في خاطري ، سألتها “متحركشا”: (هل وصلت طائرة مونتريال ؟ ) تحدثت وهي تشير إلى شاشة المعلومات، بصوت عذب اهتزت له أوتار قلبي طربا ، ضحكتُ و بكيتُ معا شوقا إلى ليالي صيفية تجمعنا يسهر فيها قمران، حديثها عزف على أوتار من برد و نار : ( ربما ستتأخر .) ، أذهلني صوتها ، لم أعي ما تقول و كأنها تتحدث بلغة لا أعرفها، إلا أن أمطارا من سعادة غسلت قلبي ، أعاود السؤال و أزداد غرقا في عينيها و هي تهرب تارة إلى هاتفها و تارة إلى الأشياء و الناس حولنا، و أنا الطفل العابث في الحكايات.
ماذا ألمّ بي أهو الحب ؟ وهل مازال قانون النظرة الأولى ذو فاعلية في القرن الواحد و العشرين وقد أصبحت المرأة مادة اعلامية ألوان براقة و منحنيات مبالغ فيها ولم تترك لها المصادر المعلوماتية سرا إلا و كشفته ! وهل بقي شيء من الحب في الفصل الأخير من العمر؟
لا شك أننا نغدو أطفالا عندما نحب، يحوّلنا من غريبين جمعتهم الصدفة إلى صديقين ، نضحك ملء القلب ، تختفي الألوان الباهتة للعالم فنراه جميلا غير الذي اعتدناه ، يخدعنا الواقع و نغرق في اللحظة التي تغمرنا و ليس أبعد من ذلك .
راقبنا طقوس اللقاء حولنا ، صرخات فرح، قُبل و عناق ، ثم تلتقي الأيدي و يخرجون إلى الحياة، في صالة المطار واقع مختلف فأنت بين الوطن و الغربة ، مساحتان مختلفتان يفصل بينهما زجاج شفاف أحدهما شوق و حنين و الآخر وجع و أنين، تبادلنا التعليقات و الغمزات و الابتسامات ، حلّقت خيالاتنا بعيدا ، ركضت فوق المدرجات دارت حول الحظائر ثم عادت بنا اللهفة تغرقنا في نظرة واحدة، ما الذي يجعل الوطن وطنا ؟ .. الحب !
( هل يتسع الوقت لتشاركيني فنجان قهوة؟) ، نظرت حولها ثم إلى شاشة المعلومات و ابتسمت، (وصلت الطائرة.. و عمّا قليل ستخرج والدتي من الجمارك)، لنفترق صديقين إذن على وعد باللقاء ، وهكذا بت أؤمن بالأساطير وأقرأ الفنجان و أهرب من فوق أسوار المدرسة مرة أخرى في انتظار لقاء يجمعنا فهل يتحقق لنا ذلك؟ أم هو خيط دخان أخذته الريح فلا عنوان ولا نفحة من عطر ولا كنا ولا كان!