د.عمر مقدادي
التقريب بين مذاهب السنة والشيعة ومستقبل المنطقة
تعدّ أول فتنة تمر بالأمة الإسلامية هي مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، والتي تمثل بداية الخلاف والفتنة بين المسلمين، فحادثة مقتل عثمان تسببت في حدوث نزاعات بين الإمام علي بن أبي طالب الذي تم مبايعته كخليفة رابع وبين معاوية بن أبي سفيان والي الشام حول موضوع القصاص من قتلة عثمان، من هنا يتضح أن الخلاف نشأ كخلاف سياسي بين وجهتي نظر حول قضية لا خلاف عليها وهي القصاص من قتلة عثمان بن عفان، لكن كان لكل منهما وجهة نظره بين تماسك الدولة ثم القصاص أو القصاص ثم تماسك الدولة، هذه الفتنة وما خلفته وراءها من نزاعات عنيفة لا سيما بين معاوية بن أبي سفيان وعلي بن أبي طالب الخليفة الراشدي الرابع كانت السبب الرئيسي وراء تفتت المسلمين، وكان الموقف الأساسي لمعظم الصحابة هو محاولة إنهاء هذه الفتنة وأخذ موقف حيادي من النزاع، ولعل أكبر ممثل لهذا الاتجاه هو عبد الله بن عمر الذي صرح بهذا الموقف مرات عديدة، وإن كانت تميل في الكثير من الأحيان لإعطاء الأحقية في النزاع لعلي دون معاوية، إلا أنها في النهاية تنحو نحو المساواة بين كافة الصحابة وعدم الخوض في تفسيق أحد منهم، أخذاً بالقول أن (المجتهد إذا أخطأ فله أجر، وإذا أصاب فله أجران)، لكن الخلاف تطور من خلاف سياسي ليصبح عقائدياً، ونعترف بأن هذا الخلاف السني الشيعي موجود تاريخيًا ولا يمكن لأيّ كان أن ينكره، على أنّ في هذه اللحظة التاريخية التي يعيشها العرب والمسلمون أصبح الخلاف سياسيًا أكثر منه أيديولوجيًا، ويمكن ملاحظة الشحنات الطائفية التي يشحنها السياسيون والإعلام في بعض الدول من أجل الحصول على مكاسب وتحقيق مصالح سياسية، ونرى اليوم العزف على الخلاف المذهبي مألوفًا في الدوائر الاستعمارية الغربية والغرض من ذلك إنتاج حرب طويلة بين السنة والشيعة لتحقيق مشاريعهم السياسية في المنطقة.
يرى البعض أن لعبد الله بن سبأ ضلع كبير في هذه الفتنة المذهبية، والبعض يتهم الدولة الصفوية بإثارة الخلافات العقائدية بين المسلمين، ويوثق التاريخ أن التغير الجذري بالنسبة للشيعة في منطقة الشرق الأوسط بدأ مع قيام الدولة الصفوية عام 1501م في إيران ومناطق من العراق وآسيا الوسطى، حيث كانت إيران قبل هذه المرحلة طبقاً لبعض المؤرخين تابعة للمذهب السني الشافعي عدا أقلية بسيطة من الشيعة، لكن مع قيام الدولة الصفوية تم اتخاذ المذهب الشيعي الإثني عشري مذهباً رسمياً لإيران وسكانها لتتحول إيران من السنة إلى الشيعة، ويرجع البعض سهولة هذا التحول إلى سلمان الفارسي الصحابي الجليل الذي ارتبط به الإيرانيون بشدة كونه منهم وكون النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد قال في حديث له “سلمان منا آل البيت” كدلالة على رفعة شأنه، وعلى مدار التاريخ حدثت العديد من الصدامات بين الشيعة والسنة تبادل فيها كلا الطرفين الاتهامات، فيرى الشيعة اضطهادًا سنيًا لهم في التاريخ خصوصاً في العصر الأموي والعباسي والعثماني، وفي مقابل هذا الاضطهاد قامت ثورات شيعية أشهرها ثورة القرامطة وثورة النفس الزكية وغيرها، ولكن الصراع الذي تسبب في شق وحدة المسلمين كما نعتقد هو صراع الدولة العثمانية مع الدولة الصفوية.
قال تعالى: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ”، وقال تعالى: “فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ” صدق الله العظيم، وقد أوصى الإسلام والرسول الأعظم والعلماء الربانيون بالوحدة الإسلامية وجعلوا التقريب والتقارب والتلاقي بين المذاهب الإسلامية فرضًا واجبًا لا يكتمل الدين إلا به. وقد أجمع المتقدّمون كما المتأخّرون على ضرورة تكريس التآخي والتلاقي بين السنة والشيعة، فالجميع يؤمنون بالله الواحد الأحد وبرسالة النبي المصطفى وبالمعاد والقرآن الكريم الذي صانه الله تعالى من التحريف واعتباره مصدرًا مع السنة النبوية الشريفة للأحكام الشرعية وبمودة أهل البيت ونحو ذلك ممّا يشترك فيها المسلمون في القواسم المشتركة ومنها دعائم الإسلام الخمسة، وإنّ هذه المشتركات هي الأسس القوية للوحدة الإسلامية ينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذهب معين، فما کان دين الله وما کانت شريعته بتابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب، فالکل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى، ويجوز لمن ليس أهلاً للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقررونه في فقههم في العبادات والمعاملات، وقد قام العديد من العلماء بمحاولة إقامة التقريب بين المذاهب بدأها محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وتبلورت بتأسيس جمعية التقريب بين المذاهب، وشجع العديد من علماء السنة هذا الاتجاه مثل الشيخ محمود شلتوت، وأصدر الأزهر فتواه الشهيرة بصحة التعبد بالمذهب الأباضي والشيعي الإثني عشري والزيدي، وبذلك فتح المجال للتقارب بين السنة والشيعة جناحي الأمة الإسلامية.
لعل من أسباب هذه الفتنة في العصر الحاضر: مساعدة الثورة الإسلامية في إيران الجماعات الشيعية في بعض الدول العربية، مما ساعد على تأجيج الخلاف بين السنة والشيعة بعد فشل الثورة في الخروج من حدود إيران، وكذلك ظهور بعض التيارات السنية المتطرفة، وقد ظهر ذلك بعد احتلال القوات الأمريكية للعراق، حيث أخذت المواجهة بين السنة والشيعة على شكل صراع فكري يتمثل في محاولة استقطاب الفريقين لأكبر عدد من الأتباع وتحولها إلى صراع سياسي ومواجهات مسلحة، ولعل التفجيرات في المدن العراقية والصراع بين الجماعات السنية مثل تنظيم القاعدة وغيرها وبين التيار الشيعي الصدري مثال على ذلك، ومن الأسباب كذلك التمييز الديني الذي يعانيه الشيعة من الإثني عشرية والإسماعيلية في المملكة العربية السعودية وبعض الدول العربية الأخرى، ومن الأسباب كذلك الصراع بين الحكومات السنية وجماعة حزب الله الشيعي في لبنان والتنظيمات الشيعية في البحرين والكويت، حيث تبين الأحداث بأن سبب هذا الصراع رغبة كل جماعة فرض سيطرة مذهبها في أوسع نطاق كما هو الحال في العراق وسوريا واليمن والدول المحتوية على نزاعات وربما بدعم وتأثيرات إقليمية ودولية كردة فعل لمشروع نفوذٍ سياسي لإيران في المنطقة، ولعل المستفيد من هذا الصراع في المنطقة هي الدوائر الصهيونية والدوائر الأمريكية لإبقاء إسرائيل القوة الأولى في المنطقة.
من المفارقة الواضحة والتاريخية التي تؤكد حالة التعايش السلمي والتعاون بين السنة والشيعة في المنطقة العربية، فعلى مدى زمن طويل كان السنة والشيعة يعيشون مع بعضهم وكذلك مع المسيحيين أيضًا دون أي خلاف والحالة العراقية مثال حي قريب من الذاكرة، ومع ذلك كما هو حال المجتمعات والدول من الطبيعي أن يوجد في الواقع اختلاف وهذا الاختلاف موجود سواء كان في الإطار المذهبي أو في الإطار الديني أو في الإطار السياسي أو غير ذلك، فالاختلاف هو طابع الحياة، ولكننا نعترف بأنه سيبقى هذا الاختلاف وعلينا أن نتعامل معه، وبالتالي نعيش كل هذا التوتر الناتج عنه الذي يعيشه العالم العربي أو العالم الإسلامي، ولهذا مطلوب من الجميع تفعيل التربية ودورها عند السنة وكذلك عند الشيعة لينطلق الجميع لإزالة التوتر الذي غالبًا ما ينتج عن هذا الاختلاف، والذي أصبحنا نخشى من تداعياته على مستقبل العالم العربي والإسلامي، وهنا لابد من تأكيد أهمية العلماء المسلمين ودورهم في تحمل المسؤولية، لأنه يجب أن يكون لديهم أكبر دور في التوعية والإرشاد والفتوى لتوحيد المذاهب الإسلامية، وإننا إذ نؤكد أهمية هذا التقريب بين المذاهب سعياً إلى تحقيق الوحدة في عصرنا الحاضر في هذه المرحلة المفصلية لتفويت الفرصة على كل المتربصين والمراهنين على مستقبل الأمة ووحدتها، فلا العقل ولا النقل يدعونا أن نتحمل تحديات القرون كلها، بل المطلوب من الجميع الفهم واستخلاص الدروس والعبر، يكفينا يا أبناء الأمة قضية فلسطين وتداعياتها، فهل بإمكاننا اليوم أن نبطل مفعول القنبلة المذهبية الموقوتة التي يُراد تفجيرها في جغرافيا الإسلام والمسلمين وإثارة صراع سني شيعي طويل ليهلك الحرث والنسل بغطاء سياسي دولي في المنطقة، ونسأل المولى عز وجل أن يجمع قلوب المسلمين، وأن يوحد كلمتهم لمواجهة التحديات الكبيرة وداعيًا الله تعالى أن يكون ذلك سعياً في وحدة الأمة استجابة لقول الله تعالى: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا”، وقال تعالى:” إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ” صدق الله العظيم.