وصفات طبيّة في الصحّة العقليّة والفكريّة
يتميّز الإنسان عن غيره من الكائنات بـ”العقل”، لذلك وجب عليه أن يحافظ على صحّة عقله كما يحافظ على صحّة جسده، فيراعي سلامة آلة العقل بما هي عمليات تفكير، ويراعي جودة “غذائه” بما هي أفكار ومعارف، ويراعي حسن التّصرّف بما فكّر ورأى. هذا رغم أنّ الفروق بين الجسد والعقل ومحلّه الدّماغ تتضاءل كثيراً نتيجة البحث العلميّ المتقدّم، ولهذا حديث قادم. ولكن لا بأس من إشارات يُمكن لها أن تحفظ علينا صحّة عقولنا وأفكارنا.
(1) تحوّلات العقل والفكر: جوهر “إيجابيّ”، وأعراض “سلبيّة”
يقول المثل الفرنسيّ: “الأغبياء وحدهم مَن لا يغيّرون آراءهم”.
إذا رأى أحدنا رأياً في مرّة أو مرّتين، فلا يلزم أن يراه مرّة ثالثة ورابعة؛ لأنّ الأسباب التي تدفع لرأي ما في المرّة الأولى أو الثانية قد تتغير، وهذا من بدهيات الرأي والفكر والعمل. لكنّ النّاس تحبّ أن تحاكم الإنسان وفق قياساتها السابقة دوماً، ولا تكون بحكمة خياط “برنارد شو” الذي كان يأخذ قياساته كلّما جاءه لتفصيل ثيابه، فالإنسان بدنياً يتغيّر من النحافة إلى السمنة، ومن السمنة إلى النحافة، وأفكاره تتغيّر بتغيّر تجربته وخبرته ومعرفته.
إذا كان الأمر كذلك، فما المطلوب من الإنسان إذ تغيّر؟
1. أن يكون متّسقاً مع نفسه، فلا يفعل ما يفعل، أو يرى ما يرى إلا ما يظنّه “أصوب الأفعال والآراء” في كلّ مرّة رأى رأياً أو فعل فعلاً. فالاتّساق والصدق يقاسان في السياق الواحد لا حين تختلف السياقات.
2. إذا كان صاحب الرأي أو الفعل متبوعاً مسموعاً، فالواجب عليه أن يبيّن حجته وبرهانه وأسبابه التي جعلته يقول بالقول الجديد، أو يفعل الفعل الجديد.
وتحوّل الفكر والرأي متى كان متّسقاً مع الأسباب الموجبة والأدلّة المُلزمة كان مظهراً من مظاهر صحّة العقل والفكر، ولكن له آفة باحتمال الخلط بينه وبين “التذبذب” و”الانتهازيّة” و”التلوّن الفكريّ”، والضابط في التفريق هو “سبب التحوّل ومقصده”، فمن كان تابعاً للحجّة والبراهين وجديدهما كان تحوّله حكمة وصحة عقليّة وفكريّة، ومَن كان تحوّله منفصلاً عن الحجّة مرتبطاً بـ”المصلحة الشخصيّة”، و”اليد” التي توزّع “الأموال والمناصب” كان تحوّلاً مَرضيّاً انتهازيّاً.
ومن الطبيعيّ أن تترافق “التحوّلات الفكريّة” التي يخوضها الإنسان والمجتمع بكثير من مظاهر القلق والاضطراب والتّطرّف والتّطرّف المضاد؛ فالطاقة الكبيرة التي ينفقها الإنسان في هذه التحوّلات تدفعه إلى المبالغة والتطرّف: المبالغة في “القيمة الإيجابيّة” لما صار إليه، والمبالغة في “القيمة السلبيّة” لما كان عليه. وبعد أن تستقرّ هذه “التحوّلات” ويحلّ “الهدوء” محلّ “النزق والاندفاع” يقلّ “سخطه” ممّا كان عليه، ويخفتُ “تعظيمه” لما صار إليه، ليبحث عن “تحوّل” جديد يجدّد له مشاعر “التفوّق” و”الانتصار” و”البطولة” التي تسببها “الانقلابات الفكريّة”. وهذه “المشاعر ضروريّة” لحصول “التطوّرات الفكريّة” في حياة الإنسان والتقدّم إلى الأمام، ولكنها مرافقة لـ”الانتكاسات الفكريّة” أيضاً.