وقفة مع مسيرة المؤرخ الأردني سُليمان الموسى
أ.د. حمزة المحاسنة
مع إطلالة فجر جديد من صباحات شهر حزيران القائظ من عام 1919م , كانت قرية الرفيد من أعمال اربد وحوران على موعدٍ قدريٍّ تجلى بميلاد من سيصبح شيخاً مؤرخاً للأردن لا يجاريه أو يدانيه في مهنته إلاّ قليل من ذوي الاهتمام . تلقى المولود من أديم الريف الأردني سليمان الموسى علومه الأولى في كُتّاب البلدة وثم تابع تحصيله في مدارس الحصن وخلال هذه الفترة الوجيزة بدأت مرحلة التكوين لشخصية الموسى تتجلى رويداً رويداً ، إذ كشفت بواكيرها الأولى عن فتىً ذكيٍ بالفطرة شعّ نبوغه منذ نعومة أظفاره , مما جعل الأقران والأتراب يحركون أحاسيسهم غبطة لصاحب هذه العبقرية الناشئة الصاعدة نحو آفاق المعرفة الرحبة بكل إرادةٍ واقتدارٍ ، والمسكونة بالعزيمةِ والإصرارِ وعنفوانِ الشبابِ .
إن ما شدّني وحببني بالموسى يعود لأربعة عقودٍ قد خلت حين كنت طالباً على مقاعد مرحلة الدراسة الجامعية الأولى في قسم الآثار في رحاب الجامعة الأم الجامعة الأردنية . في تلك الأيام الخوالي كنتُ مع أقراني رفاق الدرب نشكو من صعوبةِ مطالعةِ نصوصِ المصادرِ والمراجعِ الأثريةِ المدونةِ باللغة الانجليزيةِ ، وخاصة تلك المُسطّرة في حوليّة دائرة الآثار العامة الأردنية، واستمر هذا الحال حتى فاجأنا احد زملائنا بعثوره على كتابٍ في مكتبة الجامعة الأردنية يتناول آثار الأردن منشوراً باللغة العربية . وجدنا ضالتنا في كتابٍ متوسط الحجم يتألف من مائتين وخمسين صفحةً من تأليف ألآثاري الانجليزي لانكستر هاردنج وتعريب الأستاذ سليمان الموسى. لم يكتفِ الموسى بنقل هذا المرجع المهم للعربية بل ذيّل صفحاته بحواشٍ عجّت بالتعليقاتِ والتصويباتِ التي دحضت جميع الأباطيل والأساطير التوراتية التي استند إليها المؤلف وخاصة تلك المتعلقة بتاريخ المواقع الأثرية الأردنية الوارد ذكرها في روايات العهد القديم . إن القارئ لهذا الكتاب يلمس قدرة المعرّب اللغوية وامتلاكه لناصيتي اللغتين العربية والانجليزية ، وفوق ذلك كله سعة اطلاعه وصدقه وأمانته وإخلاصه في الدفاع عن حياض هذا الوطن وتاريخه المجيد .
إن البحث عن الحقيقة التاريخية وسبر أغوارها واستنباطها من مضانها يعتريه الكثير من المصاعب والمتاعب إذ لا يقدر من يرتاد مسالكها ودروبها إلاّ من قد حباه المولى عز وجل صبرا وبصيٍرة وأناةٍ وحنكة وجَلدا عزّ نظيره وقدرة على تجشّم العناء ومكابدة سهر الليالي الطوال , ولعل صاحب هذه السيرة العطرة بكل ما لديه من مكنونٍ ومقوماتٍ راسخة يأتي في طليعة الرواد الأجلّاء الذين امتطوا صهوة البحث عن كبد هذه الحقيقة التاريخية ، إذ تمكّن بجهده وكدّه من كشفها للكثير من أنصارها وأحبابها وعشاقها .
إن كتابة تاريخ أيّ امة من الأمم ليس بالأمر اليسير لكن شخصية الموسى، بكل ما جُبلت عليه من شمائلٍ شتى ، وكل ما حازت عليه من شغفٍ وحبٍ شديدين للمعرفة ، قد جابت الأمصار والأقطار وطوت المسافات وحطّت رحالها في عشرات البلدان والحواضر وفي مقدمتها لندن عاصمة الضباب التي احتضن أرشيفها بين دفاته ملايين الوثائق التي سجّلت الأحداث والوقائع التي أطّرت العلاقات بأدق تفاصيلها بين المستعمر الانجليزي ومستعمراته في منطقة شرق السويس ، ومن بينها الأردن . نجح الموسى في نفض الغبار عن هذا الأرشيف واضعاً نصب عينيه حيازة كل ما يقع عليه ناظريه من تلك الوثائق والمستندات التي سردت وأرّخت الكثير من شؤون الأردن ودول الجوار لاسيما فلسطين السليبة. وبالرغم من ضيق ذات اليد ، وشح الإمكانات المادية ،افرغ الموسى كل ما في جيوبه ليغطي نفقات سفراته ، وتنقلاته بين ردهات وقاعات هذا الأرشيف الثرّ ، إضافة إلى مصاريف إقامته في الفنادق والمقرات التي كان يحلَّ فيها لأشهرٍ عديدة . حقاً افرغ الموسى جيوبه لكنه قد أغنى عقله ، وبإصرار عنيد بدا يشق لنفسه طريقاً جعلت منه باحثاً يسعى لتسطير تاريخ مجيدٍ للأردن بكلتا يديه اللتين قد جُبلتا من أديم هذا الوطن العزيز, وكأني بابي عصام صاحب الهمة وهو يحمل على كاهله أثقالاً كبيرةً من الوثائق مناجياً نفسه بهمسةٍ من شفتيه ” كله في حب وصون تاريخ الأردن يهون “.
لست هنا بصدد عرضٍ لإرث الموسى العلمي , والذي جاوز الخمسين مجلداً ، والمئات من المقالات والنشرات والمؤتمرات والندوات ، فقد طاف عليه زملاءٌ آخرون , لكّن ما استرعى انتباهي هو باكورة هذا الانجاز العلمي ، والتي خطّها يراع الموسى وهو في مقتبل عمره أيام كان معلماً متنقلاً بين حواضر فلسطين . إن ما عاشه من مآسي ومرارة مارستها سلطة الانتداب البريطاني في فلسطين تطبيقاً لوعدها المشؤوم الذي سلب الأرض والبشر قد دفعه لتأليف سيرة (الحسين بن على والثورة العربية الكبرى)، فالتناقض بين الوعود المقطوعة للعرب وأشرافهم في مكة المكرمة من قِبل وزارة المستعمرات البريطانية ، وما يجري على ارض الواقع في تلك الأيام من غدرٍ ونكثٍ للعهود ، قد جعله الموسى مادةً لهذا المولود البكر , وفي هذا تأكيد على أن الهمّ الوطني , وحب الأوطان كان الأساس الذي بنى عليه الموسى نهجه وخطه الوطني .
إن البحث الدؤوب عن الحقائق التاريخية , والكشف عن أسرارها لغرض التثبّت من مدى دقة وصحة ماضيها لربطه بحاضرها ، جعل من الموسى جسراً رابطاً بين قطبيها ، فقد شق طريقه، ومنهجه بأسلوبٍ إبداعيٍ خلّاقٍ بعيداً عن كل المؤثرات السياسية والفكرية والعقائدية . إن التجرد ، والحيادية جعلت الموسى واحداً من بين القلائل الذين حازوا هذا المجد الفريد في بحثهم عن تاريخ أممهم وشعوبهم .
بكل تواضع نقول إن سيرة سليمان الموسى هي مسيرة وطن بكل ما فيه من أحداث ، وانجازات ، وتجليات ، واكبتها الدولة الأردنية على أيدي بناتها من بني هاشم منذ نشأتها وحتى تألقها ، وعلو شانها بين أقرانها من دول المشرق العربي . وبعد أن يطوف المرء بشطآن هذه السيرة العطرة ذات السجل السامي يجد أن صاحبها قد صاغ بموضوعيته وتجرده وعشقه للحقيقة أدق التفاصيل لكافة الأحداث التي عاشها الأردن أرضا وشعباً وقيادةً ونسج منها سجلاً حافلاً أضحى مصدراً ومرجعاً تاريخياً وانثروبولوجياً اجتماعياً لكلّ أردنيٍ صادق الانتماء لوطنه .
على النقيض من الكثير ممن قد انخرطوا في هذا المجال، لم يكن سليمان الموسى مداحاً متكسباً يلهث وراء حطام الدنيا وبهرجة مناصبها. و إذ لم يثنِ على احدٍ إلا عندما يعزُ الثناء ، ولم يُوقّر إلا من يستحق الوقار عربياً كان أم أعجمياً ، ولم يكن الموسى لعّاناً بل ناقداً ذكياً يغمز من طرف المؤرخ الضليع غير الشامت دون التعريض بمقام حاكمٍ أو محكومٍ، على الرغم من جسامة الأحداث والخطوب التي عصفت بمسيرة وطننا .
ما تركه الموسى من نفائس تراثية، وتاريخية جعل منه قدوة تحظى باحترام جميع الباحثين والدارسين الأصيلين منهم والطارئين ‘ فأبو عصام لم يعرف قاموسه الملل أو الكسل , إذ لم تهدا له حركة , ولم يعرف السكون , والخلود للراحة والدعة , فقد كشف كل المستور والمعلن من تاريخ الأردن وفلسطين السليبة طيلة رحلته العلمية . كان لديه شغف كبير في الوصول إلى أقصى مدى من التحليل , والتمحيص لكل ما حطت عليه يده من معلوماتٍ , ورواياتٍ , ووثائق تاريخية .
إن مسيرته الطويلة الحافلة بالعطاء أبدعت في إيجاد رصيدٍ من الركائز , والمدونات التاريخية للأردن والمشرق العربي على حدٍ سواء , فقد غدت هذه النفائس العلمية منارةً شامخةً , ورافداً مدراراً يغترف منه كل من يحب الأردن وتاريخ الأردن , لم يترك أبو عصام شاردةً ولا واردةً من تراث الأردن المعنوي إلا وثقها خير توثيق حفظاً لها وخوفاً عليها من عوادي الدهر وغوائل الضياع والنسيان , فالدارس أو المتصفح لانجازات الموسى يجد تاريخ الأردن بأدق تفاصيله وأحداثه , وقياداته , ورموزه الوطنية , ورجالاته , وشيوخ قبائله , وقواه العسكرية , وأحزابه السياسية , ومعتقداته الدينية , ومنتدياته الفكرية , وأجهزته الإدارية الرسمية والمحلية , بكل ألوان أطيافها معارضةً وموالاةً . حقاً لقد خلّد الموسى الأردن , وفلسطين , وديار المشرق العربي بمدادٍ من شرايين قلبه , وعصارة فكره , ورصانة تحليلاته , ودقة وصفه , وصدق انتمائه لوطنه وعروبته وحضارته الإسلامية . كل هذه وغيرها جعلت من الموسى سراجاً أردنيا وهاجاً أضاء عتمة الدروب وبدد الشكوك والظنون في عقول كل من ولج ويلج وسيلج لسفر الأردن الخالد , لقد حاز أبو عصام المجد من جميع أطرافه، وحق له ان يدعى مؤرخ الأردن والثورة العربية الكبرى بكل اعتزاز.
لا بد للإنسان المؤمن أن يمتثل لإرادة الله ويصمت , إذ بعد مسيرةٍ طويلةٍ طوت تسعة عقودٍ من الزمن , اقتضت مشيئة الخالق وحكمته أن تؤرخ النهاية بنفس تاريخ البداية ، فقد غيّب الموت استاذنا في حزيران القائظ، اي في ذات الشهر الذي ولد فيه. واليوم تمر الذكرى الحادية عشرة لفاجعة رحيلة: لقد فارقنا وهو في عز عطائه ، ولم يزده تقدمه بالسن إلّا بهاءً عزّ نظيره لدى نظرائه , واقرأنه من الرواد الأوائل .
وأخيراً نختم بالتضرع للرحمن أن يكلأ بواسع رحمته , ومغفرته صاحب هذه السيرة الحافلة بالعطاء , الشيخ المجتهد العالم النحرير والمؤرخ القدير ابن الأردن البار سليمان الموسى , أبقى الله عبق ذكراك يا أبا عصام فواحاً بيننا على مر الدهور والعصور ……..لن ننساك يا قمر المؤرخين .