رمزي الغزوي
ثمة قامات لعجلون: قنديلها العاشـق يرنو كقمر مسروج زيتاً، نسامر به أغاني الحصادين وعرائش العنب، في بساتين وادي العريس (كفرنجة)، وكروم (سرابيس) في عنجرة وعبين ورأس منيف.
والجبل المُعمّم بحرير الغيم الشهي قامة ثانية. والغابة حلمنا الأخضر. والقلعة سيرة سيوف مخضّبة ما دخلت غمداً. والزيتونة أمٌّ أولى أرضعتنا حليبها الذهب. وشجرة (الكينا) التي شاخت بحزن في قلب المدينة، ما زالت قامة سادسة لها. والمسجد القديم بمئذنته وقناطره قامتنا السابعة السامقة.
الليل قلعةُ الرجال، وبوح السمَّار وحنينُ الظاعنين. والقلعة شبكة لاقتناص قمر البرتقال في السحر، كي نمد أناملنا ندغدغُ الثريا؛ ونعلق بشهابٍ يدور حول القلب، والدنيا تحتنا كصحنٍ؛ فنعود منكِ إليكِ يا عجلون.
فسلامٌ عليكِ أنّى صلى فيك طيرٌ، وأنى وَطَنَ فيك وردٌ. سلام عليك ما انفجر في خاصرتك نبع (أبو الجود) ماخراً جذور (الكيناية)؛ ليروي شجر التوت الآيل للعسل في وادي الطواحين. سلام عليك ما انحنت (حورةٌ) لصلاتك، وانتشت (سروةٌ) لقرع أجراس كنائسك. سلام عليك ما لاعبكِ السنونو وقبَّل وجه الأرض، وبنى أعشاشَ الطين في بيوتاتك الوادعة.
يا أمنا يا عجلون، أرسمينا شجراً من وهج وبيلسان، واكتبينا حُلماً لنوى الزيتون وجذوةً للعنب؛ لنكبر أغنيةً للغيمات، ومطراً للطرقات البكر. فهذا جبل عوف يشهقُ كل يومٍ في طور السماء، كي نملأُ أفواهنا ندىً من أثداء الغيم؛ ونصعد نجماً نجماً في مدارج القامات.
يا قلبي. ما زلت في الأيام الصافية من قزع الغيم وذرات الغبار، وقطعان الضباب، أقف على برج القلعة وأمد عيني غرباً؛ أعانق القدس حضناً لحضن. أراها أدنى من مقلة العين، فتلمع في روحي قبتها الذهبية، وحين أصيخ السمع؛ ثمة صوت فيروزي يشق الجبال ويقطع الشريعة (نهر الأردن) ويأتينا حزيناً، فألهج معه دامعاً: عيوننا إليك ترحل كل يوم!.
هنا القلعة. فيا جند عز الدين أسامة. انزلوا الباب جسراً فوق الخندق، سنأتي لنطلق حمامنا الزاجل بعد أن نشبك في أقدامه رسالة إلى الحياة: نعم نحن تعبنا، ولكننا ما لنا، ولن نلين. فاهمز براكين النزق في صدور المتعبين.
ويا أيها المار من هنا انصت، وهاتِ قمح يديك. فأنت في القلعة العليا. هذا صليل سيوفهم نقشٌ في الجدران، وهذه حمحمة خيولهم تطلق أعنة البحر موجاً من غضب والنزق، وهذا برج الصقور يرشق بمنجنيق القطران والنار خطى الطامعين العابرين.
وبعد هذا، ماذا سيضيف إليك يا قلعتنا، إن كنت في القائمة النهائية للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو)؟ أو لم تكوني؟. أنت تمنحين الأشياء معناها.