د. عبير الرحباني
اذا كان القاضي يعمل على حل قضايا المجتمع.. واذا كان المهندس المعماري والانشائي يقوم بهندسة البناء والحجر .. واذا كان المهندس الميكانيكي والالكتروني يقوم بتصليح الاجهزة والمعدات .. واذا كان المهندس الزراعي يقوم بعلاج المشاكل المتعلقة بالانتاج الزراعي والثروة الحيوانية.. والتخطيط لبناء قنوات الري والصرف والتحكم بالمياه ايضا .. واذا كان الصيدلاني يقوم بتقديم النصح والارشاد الصحي وتسويق الادوية.. فهل المعلمون جميعهم يسعون لحل مشاكل طلابهم ويعملون على انشاء جيل متحضر وواع .. ويعملون على انشاء وبناء العقول النيرة .. ويُصلحون من حال طلابهم ويرشدوهم الى الطريق الصحيح !!.. ويعالجوا المشاكل المتعلقة بالانتاج الفكري والثروة الانسانية.. والتخطيط السليم لبناء أجيال المستقبل الصاعدة ؟؟؟.. فاذا كان الصحافي يكتب ويحرر ليعالج قضايا المجتمع .. واذا كان الطبيب يعالج الجسد فان المعلم ينبغي ان يعالج الفكر.
وفي هذا الاطار لا نقلل من اهمية أو قيمة أي مهنة من تلك المهن فجميعها مهن نقف لها احتراماً وتقديراً .. ولكننا نجد ان الدول المتحضرة والمتقدمة تعطي جُل اهتمامها بالمعلم من حيث المساواة مع قيمة المهن التي ذكرتها ورواتبهم ايضاً، وربما في بعض الدول تكون رواتب المعلم اكثر سقفا من المهن الاخرى.
ولسنا ضد مطالب المعلمين .. لكن ضد ان يعتصموا بهذه الطريقة التي من شأنها تعطيل أشغال الناس.. والقطاعات وتعطيل العملية التعليمية.. لاجل إعتصاماتهم ..
ففي المانيا تظاهر القضاة مطالبين بمساواة رواتبهم بمعلمي المرحلة الابتدائية، لكن المستشارة الالمانية انجيلا ميركل ردت عليهم قائلة: “كيف تطالبونني ان أساويكم بمن علموكم!” لذا فان أبناء هذه الدولة يتهافتون على الدخول في كليات التربية ويجتهدون للحصول على أعلى علامات للدخول في هذا التخصص ولا يتهافتون على المهن الاخرى، لان المعلم في الدول المتقدمة له مكانته المرموقة في مجتمعه.
اما في اليابان فإن المعلم يُلقب بـاللقب “السعادة” من باب التقدير المعنوي لهذه الشريحة الهامة في مجتمعه، وللدور الهام الذي يقوم به لخدمة مجتمعه وبناء اجيال المستقبل. فما جعل اليابان من الدول المتقدمة هو الاهتمام بالتعليم والمعلم اولاً حيث يأتي موقع المعلم بعد الامبراطور مباشرة.
ان تطوير المناهج في الاردن خطوة ضرورية جداً للاصلاح التربوي والتعليمي لكن لا يمكن تطوير المنظومة التعليمية من دون إعادة هيبة المعلم والاهتمام به وإعطائه مركزاً مرموقاً في مجتمعه، على الرغم من وجود شريحة سلبية من المعلمين قد شوهت صورة المعلم وصورة التربية وصورة التعليم في بلدنا .. فهناك شريحة تتبع السلوكيات غير الحضارية كالضرب وتوجيه الشتائم للطلاب.. وعدم تحمل المسؤولية.. وهناك شريحة لا مبالية بحيث لا تقوم بعملها التربوي والتعليمي اتجاه طلابها على أكمل وجه، وهناك شريحة منغلقة فكرياً ما يؤثر على النضوج الفكري للطالب وسلوكياته فيما بعد.
كما ان هناك شريحة من المعلمين لا تهتم بمظهرها الخارجي وهذه نقطة ربما يستهين بها الكثيرون، لكنها بالتأكيد تؤثر على هيبة المعلم واحترامه امام طلابه. وعلى الرغم من ان هذه الشرائح وغيرها من الشرائح السلبية هي قليلة جداً مقارنة بعدد المعلمين في الاردن الا انه ربما في الكثير من الاحيان يختلط الحابل بالنابل وهذه الفئات بالتأكيد تعكس صورة المعلم بشكل سلبي.
ولا بد للاشارة هنا بان هناك شريحة كبيرة ايضاً من المعلمين ربما لا تتقبل خطوة إعادة تأهليهم أو تدريبهم ولا شك بان شريحة كبيرة في مدارسنا تعمل على تطوير المعلم وتدريبه.. لكننا اليوم نحتاج الى تأهيله ايضاً .. فهناك فرق كبير ما بين التأهيل والتدريب.. فالتدريب مسألة تتعلق بتطوير تخصصه لاثبات وجوده كمعلم جيد ولانجاح العملية التعليمية ومخرجاتها .. لكن التأهيل لا يتوقف عند التدريب فحسب، بل هو أعمق من ذلك. فالتأهيل يعني التربية والتعليم معاً، ولئن بيئات المعلمين مختلفة ومحيطهم الاجتماعي الذي يخرجون منه مختلف عن الاخر، فمن الضروري تأهيلهم يعني ان نخلق من المعلم شخصية معتدلة وناضجة والتي توحد ما بين التقاليد والدين والعادات ومتطلبات العصر، وان نخلق منه شخصية ناضجة وهي الاقرب الى الواقع، وان نحوله من شخصية جامدة وخائفة الى شخصية فعاله في مجتمعه ومتحركة ومنفتحة على الاخر، لان اي عملية تطويرية في مجال التربية والتعليم تعتمد بالدرجة الاولى على تطوير المعلم لذاته. عقلك كيف يفكر؟، وعاطفتك كيف تتحرك؟، وسلوكك كيف يصبح؟ ومظهرك كيف يكون؟ .
وهنا فان العملية التعليمية لا تكون بشكل تلقيني، فاذا لم يستطع المعلم ان يحقق هدفاً في حياته، فكيف له ان يزرع الطموح في طلابه!. واذا لم يكن لديه القدرة على ايصال المعلومة بشكل صحيح فكيف له ان يخلق جيلا صاعداً ! فتحقيق الاهداف بحاجة الى دعم معنوي ومادي ايضاً، لاعادة هيبته وقيمته في المجتمع من خلال تأهيله وتدريبه ورفع قيمته في المجتمع واشراكه في مؤتمرات وندوات على جميع الصعد، ورفع سقف راتبه ايضاً بخاصة في ظل الظروف الاقتصادية التي نشهدها. فالامبراطور الياباني حين سئل ذات يوم عن أسباب تقدم دولته في وقت قصير، أجاب: ” لقد بدأنا من حيث انتهى الآخرون، وتعلمنا من أخطائهم، ومنحنا المعلم حصانة الدبلوماسي وراتب الوزير”.
ان الرسالة بحد ذاتها اهم من المهنة، فرسالة المعلم اولاً هي التربية من ثم التعليم.. لكننا وللاسف فنحن نعاني اليوم ازمتين ، التربية والتعليم معاً..
ولا اظن ان المعلم في بلدنا يطالب ان يتساوى راتبه الشهري براتب اي وزير، ولا يطالب بان يلقب بلقب “السعادة” فكل ما يحتاجه هو إعادة هيبته ورفع قيمته اولاً، وان يكون مكتفياً براتبه وان لا يقل عن رواتب المهن الاخرى. والجدير ذكره بان الدول المتقدمة تعطي معلم الصفوف الابتدائية رواتب ربما تفوق رواتب الصفوف الاعدادية والثانوية، والسبب انها تهتم بمراحل التعليم الاولى للطالب كون المراحل الاولى في التعليم هي الاساس في بنائه وصقله تربوياً وتعليمياً.
ولكن يبقى القول : كنا اتمنى ان يخرج المعلمون في اعتصامات ضد الرسوم المرتفعة والتكاليف الباهضة التي يعاني منها ذو الطلبة .. لا أن يقتصر اعتصامهم على الاهتمام بمصالحهم الشخصية فقط. كنا نتمنى ان يعتصموا في اماكن لا تعيق حركة المواطنين وأشغالهم ويقدروا ظروف المواطنين وانتظاراتهم الطويلة في مركباتهم .. ويتحملوا مسؤولية تعطيل العملية التعليمية.
قبل ان تقرروا الاضراب .. تذكروا ايها المعلمون من اول من هاجم العملية التطويرية في المدارس ! اليس معظمكهم ؟ من اول من هاجم ورفع شعارات ( لا لتطوير المناهج ) ( لا لتعديل المناهج ) اليس معظمكم!! .. من أول من هاجم العملية التدريبية والمهنية لاعتقاده بأنه لا يحتاج الى تدريب وتطوير للذات .. اليس معظمكم ؟
من منكم سمعنا انه احتج أو إعتصم لاجل ارتفاع الاقساط المدرسية ؟؟ .. من منكم وقف وقفة احتجاجية مع ذوي الطلاب ؟؟!! من منكم اعتصم لاجل الصالح العام !! او لاجل التكاليف الباهضة التي تقررها المدارس الخاصة ؟؟ اعتصموا لكن لا تختاروا الوقت الذي يعييق العملية التعليمية .. اعتصموا لكن في الاماكن المرخصة الاعتصام بها .. اعتصموا ضمن اطار من المسؤولية اتجاه المواطن واتجاه الطلاب واتجاه العملية التعليمية واتجاه انفسكم كمعلمين واتجاه مجتمعكم ..