د.منصور محمد الهزايمة
اشتهر الإنسان العربي على مر العصور أنه من أشدّ الناس تعلّقا بمكانه أو وطنه الذي وُلد أو نشأ فيه، ولا يخرج من بلده إلّا لأمر شديد؛ طلبٍ لرزق، أو خوفٍ من ثأر، أو هروبٍ من متجبر، أو وضعٍ أمني متردٍ، وبنفس الوقت، فعندما يهاجر العربي، لا يرحل خالي الوفاض ليعيش في وطن جديد، بل يحمل معه وطنه بين ضلوعه، أو على راحلته ليعيش فيه، في البلد البعيد، ويبقى متشبثا بحلم العودة، يؤيد هذه المعاني الشاعر العربي الكبير أبو تمّام إذ يقول:
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل
عاطفاً أول منزل على الحبيب الأول فيقول:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلّا للحبيب الأول
يُعدّ حنين الإنسان لوطنه شعور طبيعي، لدى كل إنسان سويّ، أمّا المثل الأعلى لذلك فهو هجرة النبي (ص) وأصحابه من مكة، إذ اُعتبر ذلك من أخلص الاعمال وأكملها وأقربها إلى الله، لِما فيها من تركٍ لكل ما يرتبط به الإنسان، أو يحّن اليه، لكنّ النبيّ(ص) لم ينفكَّ يذكر مكة أبدا، في الوقت الذي يدعو الله أن يحبب اليه “الوطن” الجديد.
يُحكى أن كاتبا عراقيا يسمى أبن زريق الكوفي كان يعيش في بغداد، ويعشقها، ولا يطيق لها فراق، لكنّه أراد ان يُخضع هذا العشق للتجربة الحسّية، فسافر عسى أن يظفر بمدينة يحبها كما بغداد، فعرض تجربته شعراً:
سافرت أبغي لبغداد وساكنها مثلا، فحاولت شيئا من اليأس
هيهات، بغداد الدنيا عندي بأجمعها، وسكان بغداد هم الناس
يُقال أن كل الاتجاهات توصل إلى نصف الغايات، فما أن يصل العربي إلى مرفأ جديد في بقعة من جلد الأرض، حتى يعلق في منطقة النصف، ويقبع في وسط المسافة بين العدم والكمال، فهو هنا في ما ساقته إليه الأقدار، أو قذفت به الأمواج، تتلاطم في نفسه كثير من المتناقضات، ويواجه العديد من المفاجآت، لتختلط عليه الأمور، فيعلق بين الواقع والحلم، عندها يتحول إلى نصف مواطن أو نصف مقيم أو نصف غريب، يمتلك من كل المشاعر نصفا؛ نصف ولاء، نصف انتماء، نصف حب، نصف ذكرى، ليتحول في بلده أيضا إلى نصف مواطن أو نصف غريب، تتنازعه العواطف المختلطة، فلا عجب أن يشعر بولاء لبلدٍ وفر له فرصة لم يجدها في بلده، مقابل حنينٍ أبدي لأول منزل.
وعندما تشاء الأقدار للإنسان العربي أن يحط خارج أرضه وشواطئه، عندها سرعان ما يصطدم بفارق حضاري عظيم، يتعامل معه بتوجس كبير، فإما أن يبقى منفصما أو نصفا، أو يغرق في الواقع الجديد، ليفقد القدرة على الالتفاف إلى الوراء، وإن طالت به الغربة، تغرّب الأبناء عن كل ما يمت للوطن بصلة، من لغة ودين وثقافة، أمّا إن أسعفه الحظ، أو تمكن منه الحنين لأول منزل، عاد وقد طار غرابه.
وإذا قُّدر له أن يغرّد في سماء العروبة حيث الشعب العربي الواحد بآماله وألآمه وأحلامه، عندها لا يجد فارقا يذكر بين منزل هنا وأخر هناك، حيث اللغة والدين والثقافة والعادات والتقاليد ذاتها ،حتى لا يكاد يمسك بأي فارق مهم بين قديمه وجديده، لكنه في هذه الحالة قد يعلق بشبكة المماحكات الرسمية، والتي يطلق عليها زورا “سياسة”، فالسياسة تحظى من اسمها بنصيب، بقدر ما تدير حياة الناس بنجاح، وتزرع البهجة في حياتهم، لكن ما يفعله النظام الرسمي العربي مجرد مهاترات، أخرّت الأوطان، وعقدّت حياة الناس، فتجد المغترب العربي يبدو كمن علق بين جده وسته، فلا هو هنا أو هناك، تخنقه الخلافات دون أن يكون له يدٌ فيها أو ناقة، بل لا يدرك أسبابها، ولا يمكنه الإفلات من عواقبها، حتى تجد أنه لا يوجد قطران عربيان لم تقع بينهما المناكفات، سواء كانا بينهما سياج من سلك، أو حتى لو كان أحدهما يناغي المحيط والأخر يناجي الخليج، لكنّ الإنسان العربي شديد الولاء لوطنه وعروبته يقع دائماً ضحية الفجور السياسي. الدوحة – قطر