على الجانب الأيمن من الشارع قوائم تحمل دعايات للمشروبات الساخنة ، تقف بينها إشارة المرور تحمل بالإضافة إلى مصابيح الإشارة المعتادة نظام غريب من الكاميرات و مِجَسّات مختلفة ،تراها أيضا على قوائم خاصة في الأركان البعيدة من الشارع ، أجهزة إلكترونية حساسة، منها ما يقرأ ملامح الوجه و أخرى لقياس النبض و ضغط الدم و معدل التعرّق ومستوى الجنون.
تُسجل لحظة بلحظة و تُرسل ما تلتقطه إلى السحابة ، ليتم تحليله و دراسته و استخلاص النتائج حول مواطني هذا العالم و ترسم نسخة رقمية للشخص مستخدمة آلاف المعلومات و الصور القادمة لها خلال الشبكات المعلوماتية التي تنتشر طرفياتها في كل أنحاء الأرض و السماء. أصبح وجودنا يلخصه بعض الأرقام و الرموز عراة أمام العدسات التي ترقب حركتنا ليل نهار.
فإن التقت عيناك بعيني فتاة مارة في الشارع، ستُسجل هذه اللقطة، في ملفك في قصة جديدة تلي معلوماتك الشخصية و الطبية و مشاكلك الصحية مع “البواسير” أو “البروستاتا” أو عملية التحويل الجنسية التي أجريت لك في الطرف البعيد من العالم، كذلك سيتم تسجيل هذه اللقطة في ملفها مع المعلومات االتي تتحدث عن عمليات نفخ الشفاي+ف و تكبير الصدر لتضاف لها الملاحظات تباعا حتى تلتقيا في السرير –مثلا- لتختم القصة بالملاحظة “لقاء جنسي عابر” أو” بداية علاقة جادة”.
لعنة العصر الذي نعيش و نعمته، نتكئ عليها في كل نواحي حياتنا، في البيت و المكتب و الشارع، تنام و التكنولوجيا بتطبيقاتها الرقمية ترقبك وتؤمّن لك الحماية و تبقى في يقظة مستمرة تحسب عددا كبيرا من المتغيرات حولك و تجد معامل الخطورة التي تمثلها تجاه البيئة المحلية فإذا تجاوز المستوى الطبيعي تدخلت ، لتُوقف السير و تحوّله إلى اتجاه آخر ثم تجد نفسك وحيدا في مركز المعالجة المناسب.
لم يعد للخير أو الشر حدود واضحة ولكن مجموعة من الأرقام و المعايير الإحصائية و مدلولاتها و مدى قربها من منطقة الخطر كافية لتقوم الشبكة باتخاذ القرار الذي يخدم المصلحة العامة.
أمام قدرة الآلة و كفاءتها أهمل الإنسان مهاراته الذهنية في تخزين المعلومة و استرجاعها بالطريقة التي اعتاد عليها منذ آلاف السنين و شيئا فشيئا أصبح يستخدم هذه الأجهزة لتخزين معلوماته وذكرياته و عواطفه. ابتكرت الشركات المختصة طرقا لتخزين الذكريات بطريقة سريعة و مرنة قد تقوم في القريب العاجل بزراعة شريحة حيوية في الجسم ترسل كل ما نشعر أو نفكر به إلى السحابة ، ونسترجعه عند الحاجة.
فإذا أخذتك إغفاءة قصيرة و شاهدت مجموعة من الصور و الأحداث لن تستطيع أن تحدد إن كانت أحداثا مرت في الطفولة أو حلم قديم أم ملف ذكريات تائه في السحابة قد لا يكون لك علاقة به.
ستصبح خدمة تأجير الذكريات كأحلام للآخرين خدمة رائجة مثلما كانت شركات الاتصالات في القرن العشرين تبيع معلومات زبائنها لمن يدفع، و هكذا فمن يريد أن يرى حلما يبلغ الشركة لترسل له عبر شريحته الحيوية ملف الحلم الذي يريد ، و حتى لا تتكبد الخسائر المادية فهي تستخدم ذكريات الآخرين تؤجرها لمن يطلب ضاربة بعرض الحائط بالخصوصية و أمن المعلومات التي حافظت عليها القوانين حتى ذلك الوقت، بل سيكون هناك نوع جديد من “الهاكرز” يستطيع أن يتسلل إلى بياناتنا العاطفية يتسلى بها و يزيفها .
أهلا بك في العالم الجديد و الذي نسير نحوه يوما إثر يوم و بتصميم أكبر كل يوم لنصبح طرفيات في شبكة عملاقة، فإذا أنرت الغرفة فقد استخدمت أحد شرايين الطاقة التي تنتشر حولنا في الصحاري العربية و التي تراها كشرايين باطن اليد تسير وفق التضاريس لتنزلق في أحد البحار أو المحيطات فتظهر في الضفة المقابلة، ينسكب النور عبر الشبكة المحلية التي تتصل بالشبكات الاقليمية المحيطة لتصبح لآسيا و إفريقيا و أوروبا شبكة واحدة فالناظر إلينا من الفضاء يرى الكرة الأرضية قرية صغيرة تضيؤها شبكة واحدة و تتحكم بها شبكة معلوماتية واحدة ، ترى من يمتلك “الباسورد” ؟