تبقى السلطة في دولنا العربية بل فيما يسمى دول العالم الثالث متقلبة، ومتوترة، لا تقبل المنازعة أو المشاركة أو المنافسة، فما أن يصل طرف في بلادنا سواء كان حزبا أو جماعة أو كتلة إلى الحكم حتى يستحوذ بكامل الدولة والإدارة في مختلف مستوياتها، وبالتالي تحظى باقي الأطراف بحصة صفرية، مما يُفضي إلى عدم استقرار السلطة أبدا، ما يترتب عليه ارتدادات سالبة في التنمية والحرية والثقافة والابداع، حيث تبقى باقي الأطراف تترصد الفرصة للانقضاض على السلطة بكل السبل المشروعة وغير المشروعة. لذا فإن السلطة التي لا تمتلك الشرعية الدينية، أو الدنيوية، ولا تكتسبها بما تحققه من إنجازات، تعادي الجميع، وخاصة أهل العلم من الأكاديميين، الذين يسعون وراء التطور والابداع في شتى المجالات، وكان ينبغي أن يتم الاستعانة بجهودهم وأبحاثهم ومؤسساتهم وتسخيرها لخدمة الوطن في جميع شؤون الحياة، لكنّ رعب أهل السلطة الذين حازوها بأساليب غير مقنعة، تبعد هؤلاء، وتصبح قاعدة الولاء للزعيم تسبق الوطنية والانتماء والخبرة. في الدول المتقدمة تبقى خبرة الأكاديمي واستشارته من السياسيين عامل أساسي في الولوج إلى مختلف القضايا الدولية التي تواجههم، لأن الطرح الأكاديمي يبدو وازنا، يهدف الوصول إلى جوهر الأشياء، بعيدا عن أثر النزاعات، وقيم الساسة أو الدول في التماحك، أو كسب الشهرة، أو المخادعة، أو تحقيق غايات أخرى. من أمثلة ذلك، عندما تسلم هنري كيسنجر وزارة الخارجية في اميركا (1973)، وكان عليه أن يتصدى فورا لمشكلة الشرق الأوسط، التي لا يعرف عنها الكثير، خاصة أن جولة من الحرب بين الطرفين انتهت للتو، عندها لم يتوجه إلى الساسة السابقين، بل طرق باب الأكاديميين – وكما يقول في مذكراته – فقد نصحه أحد أساتذة الجامعات بالتعامل مع العرب على أنهم أهل خيمة، يتهامسون كمن يبدون أنهم يتشاورون، لكن في النهاية يحسم الأمر الجالس في وسط الخيمة دون مشورة، أمّا النصيحة الأخرى التي تلقاها، فكانت أن العرب لا يعرفون قواعد السوق، بل عليك أن تساومهم، حتى تنتزع منهم أقصى ما تريد، وكما هو معلوم فإن سياسة كيسنجر الخارجية بقيت مرجعا في السياسة الأمريكية عقودا طويلة. مثال أخر، ما كان من اتفاق في أوسلو، حيث كان الدور الأكبر فيه لأستاذ أكاديمي يُدّرس التاريخ في جامعة تل ابيب، وكان في صلب الترتيبات لقناة المفاوضات السرية في أوسلو، بل يُقال أنه لم يرجع إلى حكومته إلّا عندما اقتربت الأمور من النضج، وعندها أخذ الضوء الأخضر من رابين رئيس الوزراء -آنذاك- للاستمرار، بل وحظي بالتقدير، على الطرف الأخر، فقد كان وفد المفاوضات الفلسطيني الرسمي المكوّن من أكاديميين ورجالات مجتمع محترمين يتلقى التعليمات بالتشدد، بينما التنازلات المثيرة تتم من وراء ظهره، بما لم يحلم به الإسرائيليون من قبل، ليشكل ذلك حرجا وإهانة للوفد الرسمي أمام العالم. قرأت مذكرات لأستاذ اقتصاد عراقي كان بارزا في وقته، وهو د. طالب البغدادي بعنوان “حكايتي مع صدام”، حيث يذكر أنه بسبب محاضرة اكاديمية في جامعة بغداد حول نظرية اقتصادية بعنوان “من لا يُنتج لا يأكل” انقلبت حياته إلى جحيم، حيث لم تتفق مع أفكار ربع السلطة -وقتذاك- فُيعتقل الرجل أمام طلابه، ويُرّحل من الجامعة مقيدا، ليتقلب بين السجون بضعة شهور، ويُعزل من كل عمل، بل عندما يُطلب للعمل كمستشار في إحدى الدول الافريقية يُرفض الطلب. يفترض أن يذهب الساسة وأهل السلطة الراجحين إلى الأكاديميين والعلماء منهم، كي يستفيدوا من خبراتهم وانجازاتهم، ليتكامل السياسي مع الأكاديمي، فالسياسة الدولية، والقانون الدولي، وأساليب المفاوضات، ونظريات الاقتصاد، والأمن، وشتى العلوم، كلها متضمنة في كتب، يقوم على تدريسها أرفع الأساتذة، ولا يعقل أن يبقى هؤلاء تحت مراقبة ورحمة السلطة، بحيث أن كلمة واحدة، أو وجهة نظر مختلفة، تقيم الدنيا ولا تقعدها، بل يُعتقل هؤلاء دون وجه حق، بما يُظهر السلطة في بلادنا -على الدوام- أنها مرتبكة وراجفة. الدوحة – قطر