جاءت الشريعة للدين والدنيا، فالإسلام عبادة وقيادة: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّـهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) (القصص: 77)، وصدق عثمان- رضي الله عنه- حيث يقول: “إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزغ بالقرآن”.
وجاءت لإسعاد البشر في الدنيا والآخرة، وعلى هذا الأساس نجد كل حكم أتى به القرآن الكريم يترتب على مخالفته جزاءان: جزاء دنيوي، وجزاء أخروي، فمثلًا قطع الطريق: جزاؤه القتل والصلب والنفي عقوبة دنيوية، والعذاب العظيم عقوبة أخروية: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33).
وإشاعة الفاحشة ورمي المحصنات: له عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة؛ حيث يقول الله- تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (النور: 19).
الإسلام ليس مقصورًا على المسجد، وإنما هو دين حياة، صالح للحياة لكل زمان ومكان. وحيث يقول: ( الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّـهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (النور: 23-25).
ولم تفعل الشريعة الإسلامية ذلك عبثًا؛ لأنها تعتبر أن الدنيا مزرعة للآخرة، وقنطرة يعبر عليها الإنسان إلى أخراه.
فالدنيا دار ابتلاء وفناء، والآخرة دار جزاء وبقاء، والإنسان مسئول عن أعماله في الدنيا، مجزي عنها في الآخرة، فإن فعل خيرًا وجد خيرًا، ومن زرع شوكًا لا يجد إلا الشوك هناك يحصده: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة: 7-8).
ربت الشريعة أتباعها على مراقبة الله- سبحانه وتعالى-، يقول الرسول- عليه الصلاة والسلام-: “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”(رواه مسلم)، ويقول- تعالى-: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (المجادلة: 7)، ذلك لأنها من وضع الله- سبحانه وتعالى-، والإنسان مخلوق من مخلوقاته، فالله- عز وجل- يعلم ما يصلح هذا الإنسان وما يضره؛ ولذلك أنزل هذه الشريعة ملائمةً له على مر الأيام والتاريخ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأن واضعها- وهو الله- متصف بكل كمال، منزه عن كل نقص، بخلاف القوانين التي وضعها البشر فهي ناقصة؛ لأن واضعها- مهما كان ذكيًّا فطنًا- متصف بالنقص، ولا يستطيع أن يحيط بما سيكون، وإن استطاع الإلمام بما كان، ثم إن الله- عز وجل- أنزل هذه الشريعة؛ لتنظيم الأمة الإسلامية، وتوجيهها إلى المثل العليا؛ ومن أجل ذلك جاءت نصوصها أرفع من مستوى العالم كله يوم نزولها، فهي كاملة سامية دائمة، لا تقبل التعديل ولا التبديل مهما طالت الأزمان، ومرت الأعوام.
والدليل على أن هذه الشريعة جاءت للدين والدنيا أن الله- عز وجل- أمر عباده أن يطبقوها في حياتهم وكل شئونهم، فيقول- سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) (البقرة: 178)، (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّـهِ وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة: 28)، (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور: 2)، فلو لم يكن الإسلام عبادة وقيادة لما أمر الله أتباعه بتطبيق هذه النصوص وغيرها، والسهر على تنفيذها.