رمزي الغزوي
مع ثقل الوطأة الاقتصادية التي نمر بها؛ يتذكر أهلنا أيام كان اللبن والسمن والجميد لا يباع ولا يشترى، بل يعطى ويهدى للجميع، في صورة أقرب إلى المشاعية كالعشب والنار والسماء وشمة الهوا. وإنهم يلحقون العار والحيف بمن يبيع هذه السلع الأساسية أو يتاجر بها.
نشأت عن هذه االنظرة الإنسانية الكبرى، ما كان يعرف بنظام (المنايح)، ومفردها منوحة، وهي عنزة أو نعجة حلوب تُمنح للذي لا يملك حلالاً أو أغناماً، بقصد أن يستفيد من حليبها ولبنها، على أن يعيدها لصاحبها نهاية الموسم. والطريف بالأمر، أن بعضاً من الفقراء كان يتجمع في حظائرهم (شليَّة) من المنايح!.
وليس بعيداً عن هذا، فالبيادر المكتنزة بأحلام الخبز، كانت أعز ما في وجدان الفلاح، فهو حصيلة شقائه وزبدة عنائه وكده من حصاد ورجاد (جمع السنابل وترتيبها على البيدر)، ثم الدراسة على البهائم، وبعدها التذرية بالشواعيب مع هبّات الريح التي تحترم حبات القمح، فلا تبعدها، بينما تطرد التبن الخفيف!، حتى إذا ما تتللت أكوام القمح عالية وعامرة، سرت كهرباء السرور بفولتية ناعمة في النفوس، وشعشعت فيها قناديل الرضا.
ورغم كل التعب الذي يواجهه الفلاح في الوصول إلى هذا القمح، إلا أنه وقبل أن يشرع بكيل بيدره وتكييسه، كان يملأ صاعاً طافحاً (وحدة قياس حجم توازي 7 كلغم في الغالب). ويقول: هذا لفلان، ويسمي أحد فقراء قريته، أو معارفه أو أقاربه، ويدعى هذا الصاع بالفتاحة، أو (صاع البركة)!، لاعتقادهم أن البركة تحل عليهم، إن تصدقوا بأول محصولهم!.
سيجتهد البعض في سحب نظام المنايح على واقعنا، ويحلم لو أن صاحب الشركات منح جاره شركة صغيرة!، يستفيد من بركاتها لموسم ثم يعيدها، وصاحب مصانع الحديد يمنح ابن عمه ثلاثة، أو أربعة قضبان؛ ليبني داراً تستره وعياله، وصاحب شركة الباصات منح نسيبه باصاً (يسرفس) عليه لمصروف الدار.
راح زمن المنايح، وراحت البيادر وصاعاتها، وجاء الحصادون الجدد بشراهتهم، وكبر بطونهم، وطارت البركة من حياتنا وأيامنا. فلم نعد نحسب حساب المعوزين بيننا رغم ما شكلته جائحة كورونا من ثقل على كثير منا، لأن الأنانية غلفتنا، والجشع عمانا، حتى اضطر أصحاب النفوس العفيفة إلى السؤال وذله.
وإذا كان العالم يعيش فترة تعيسة من الانحباس الحراري، الذي يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة بشكل متفاقم وتغيرات في المناخ، فإننا في العالم نعاني أزمة احتباس عاطفي وشعوري خانقتين. وإلا كيف نفسر هذا الفحش في التعامل، والفحش في توزيع الثروات، والفحش في التسارع المادي الموغل في الأنانية وسحق المعوزين واهمالهم وعدم الالتفات لحاجتهم؟