عبدالرحيم العرجان
مابين قلعة عجلون ومركز زوارها، سلكنا مسارنا عبر مسار الجب السياحي المرسوم بين مزارعٍ وأحراش، صنعها الخالق ووهبتها الدولة لحرية المواطن، إنها أرضٌ غنية بالخيرات التي تحتاج إلى الكثير من البحث والتمعن في الطبيعة والتاريخ والإرث الاجتماعيّ والدينيّ العريق.
أثناء الهدوء المخيم على مكان الانطلاق،استشر صوت منشار الحطّاب اللعين المسموع بشكل واضح من نقطة الانطلاق وكأن لا أحد يسمعه، أو أنه أصبح من طبيعة المكان مثله مثل زقزقة العصافير التي هُجَتْ بعد سماعها هذا الصوت الجارح للقلب، قبل أن يُقطع أصول السنديان المتجذر منذ قرون.. كل هذا لأجل حفنة دنانير لا قيمة لها أمام أشجار محمية إن ماتت صَعُب أن يُعاد إكثارها، وإنه لشعورٌ مخيب الآمال أن نبدأ يومنا بهذه الحرقة عديمة الإنسانية والانتماء.
بعد جولة حول خندق القلعة وهي عربية القواعد والبناء ،التي بُنيت من قلب صخرٍ متين، من جبل بني عوف الذين سكنوه،والمرتبطة بأخواتها من القلاع بالإشارة إلى قلعة السّلط والتي هُدمت وشقيقتها النمرود في الجليل، ومن بعدها قلعةٌ شقيف بالجنوب اللبناني، والتي أُشرفت على ما لا نهاية، من أراضٍ فلسطينية ونهرها المقدس، إضافةٍ للممراتٍ عبرَها أنبياء وتجار وطلاب علم ومعرفة وتصارعَ عليها جيوش وممالك.
وبعد تلك الجولة، انطلقنا عبر عدد من الأودية وسلسلة متتالية من الجبال سالكين جزء من مسار درب الأردن واستكمالا بما اجتهدنا
بإجمالي مسافة اثنان وعشرون كيلومتر بمستوى متوسط الصعوبة، وفي طريقنا كان نبات عود الريّ-الذي أَزهر مبكراً معلناً بداية الخريف ومبشراً بشتاء غزير- لتجود الأرض و تنبت ما انعمَ الله من بابونج وزعتر، شومر وسنمكة، قثا الحمار وبصل الفار، وحور وصفصاف وبلوط وقيقيب وسنديان وخابور، حماها الله من أيدي من يقطعها، فهي بحاجة إلى عشرات السنين لتعاد دورتها الحرجية.
ومابين كل جبل وآخر كنا نستريح بمشاهد بانورامية، تأخذنا إلى جبال فلسطين وسهل مرج بن عامر حتى مشارف جبل الشيخ وما تبقى عليه من ثلج، فهذه عجلون العامرة المنسوبة إلى ملك مؤاب الصنديد، التي قصدها مثلنا أعلام الترحال من ابن بطوطة و التطيلي الأندلسي ، فكانت جل اهتمام ودراسة كثير من المستشرقين التي استعصت على هولاكو وكسرت شوكة التتر وقلعتها التي احتاج بيركهان السويسري 1812 لأذنٍ خطيّ من والي دمشق لزيارتها.
فهي بلد المعرفة والنعم والخيرات وما بين الاستراحات الثلاث في المسار كنا نأخذ بعض الفاكهة من شجر الطريق كالعنب والتين والخوخ والبرقوق، فكما هو معروف، عابر الطريق له الحق أن يأكل مما هو خارج السور دون إذن مسبق من صاحب البيت أو المزرعة وما سواه يتطلب السماح من أهل الكرم، الذين يبادرون بدعوتك لتقطف مما تشتهي هذا إن لم يقطفوا لك هم بأيديهم.
وصلنا موقع مار إلياس المقدّس والمعتمد ضمن الحج المسيحي بشرعية الفاتيكان، وكم جميل ما بادر وتطوع به دون طلب، المشرف سائد الصمادي من مركز الزوار، بتقديم شرحٍ وافٍ عن الموقع الأثري وما حوله بحديث العارف المعتز بالمكان، ومنه توجهنا بعد إرشاده إلى جامع لستب الأموي وهو البناء المعاد ترميمه بسقف عقود برميلية من الطين والحجر الجيري، ومن خلفه التل الذي ولد فيه نبي الله إلياس عليه السلام، وهم موقعين طراء أضفتهم للمسار من باب الزيارة المعرفية دون تخطيط مسبق وهذه هي متعة المسير والاكتشاف أن تصل لمواقع جديدة غير مطروقة او مروج لها بالشكل الكافيونكون بذلك قطعنا نصف المسار تقريباً.
هنا توجهنا صوب نقطة النهاية الأكاديمية الملكية لحماية الطبيعة الواقعة على أطراف المحمية، التي تم بنائها على أنقاض مقلعٍ صخريّ بعبقرية المعماري عمار خماش،والذي استغل مخلفات المحجر محولاً من القبح جمالاً، ليكون مركز تدريب وإبداع وخلق منتجات صديقة للبيئة بمستوى عالي من الحرفية والإتقان، وهذه المرحلة لم تكن مرسومة بدروبٍ أو ممرات بل كانت استكشافية بالنسبة لنا بما فيها من مفاجئاتتتطلب العودة لنقطة أو الدوران حول عوائقها الصخرية أو النباتية متشابكة الأغصان.