كتب: أ.د.احمد ملاعبة والإعلامي أسعد العزّوني
من أمام بوابة عبق التاريخ حيث تقف القلعة الصامدة من العصر البرونزي المبكر شامخة بصخور ذات ألوان زاهية تمثل ألوان الحياة، تبدو وكأنك تنظر إلى نمر متربص على جدران الوادي بذات الألوان التي تتخايل فيها في الصخر.
النميرة حيث جاء الإسم من تصغير النمر الذي عشقناه من خلال الصور والأفلام الوثائقية والمتحركة على شاشاتنا الإلكترونية المكتوبة والمتلفزة، وهنا في هذا المكان اللون الأصفر هو سيد الألوان،وهذا الأصفر هو إنعكاس للون الحديد الشبيه بحبة الليمون الصفراء، ولهذا أطلقوا عليه إسم معدن حديد الليمونايت، وهو أكسيد الحديد المائي، وكان هذا الوادي الجميل قبل أن يقد ويحفر الماء في أوصاله ومساربه وتشققاته وكسوره، طبقا واحدا ينحدر من جنبات محافظة الكرك حيث الإرتفاع الذي يفوق 850 م، فوق سطح البحر، ليمتد رويدا رويدا من الغرب نحو الشرق، حيث يلتقي مع شواطيء البحر الميت في الأفق الجنوبي القصي للبحر عند الانخفاض الأكثر في العالم على مستوى – سالب ٤٢٨م عن مستوى سطح البحر.
على أواخر الحوض الجنوبي للبحر تمتزج قطرات مياهه النشطة طوال العام، وتفيض في فصل الشتاء مياها غدقة لتغذي هذا المالح الميت البحر، مضيفة إليه عناصر اليود والبوتاسيوم والصوديوم والمغنيسيوم وغيرها الكثير لتعطي البحر ميزة طبية جعلته أكبر منتجع طبي في العالم.
ولكي تصل إلى الوادي من أجل سياحة جميلة ضمن مصطلح سياحة المغامرة في الأودية العملاقة ،فإن هذا الوادي العملاق، وادي نميرة يمثل خير مثال لهذه الأودية والسياحة فيها، فما عليك إلا التوجه من العاصمة عمّان جنوبا بإتجاه طريق البحر الميت وبالقرب من ملاحات شركة البوتاس العربية، فيقابلك الوادي فاغرا فاه وبضحكة تجمع بين قسمات النمر وأرجل الفيل، حيث يبدأ من الصخرة المعلقة التي تبدو كالواجهة التي تعطي شكل البوابة على سيق الوادي.
وما أن تبدأ بالدخول إلى تعرجات وتموجات الوادي الجميل، تتماهى أمامك ألوان عجيبة الزمان وأيقونة البتراء، فهي ذاتها نفس الصخور من العصر الكامبري (عمرها ٥٤٠ مليون عام) والتي نحتت فيها البتراء عجيبة الدنيا ورائعة الأردن، يستقبلك الوادي بأرض جميلة مفروشة بدقاق الحصى، حتى تظن أن المسير فيه ينطبق عليه ما كتبه عالم الجغرافيا الإدريسي في كتابه الشهير” نزهة المشتاق في إختراق الآفاق”،الذي وصف فيه أشياء كثيرة ،ولكن ما رأيناه قد لا يرتقي إلى جمال إختراق آفاق وادي نميرة.
أسفل الوادي يظهر الوادي وكأن جنباته قد صقلت بفعل الماء وذرات الرمل الناعم، وأصبحت فعلا ذات ملمس ناعم وكأنه زجاج مصقول، وكلما توغلت في الوادي ترتفع أرضيته عشرات الأمتار، فتظهر العوائق التي تبدو كالعراقيل في الطريق، ولكنها مصاطب أو تدرجات في إرتفاع الوادي يمكن تسلقها بأدوات بسيطة.
وما أن تمشي كيلو مترا واحدا في الوادي حتى يتغير شكل الصخر ويصبح كالتيجان المعلقة على الجنبات وتنساب فيها دموع مثل دموع البواكي، ولكنها تمثل حالة من السليكا أو الجل الأبيض، وتبدأ الينابيع الساخنة والباردة من جنبات الوادي، بالسيلان أمام ناظريك.
رغم صعوبة وشظف الحياة في هذه الأرض الرملية والمسار الضيق ،إلا أن النباتات وبإرادتها الصلبة تنمو حيث تبرز أعشابا هنا وشجيرات هناك، وأشجار مثل النخيل والبطم والسدر، وتراها متمردة على الظل والظلام لتعانق هيكل الشمس الذي يظهر بخجل من خلال اخاديد الأودية الجانبية للوادي.
يمتد الوادي لأكثر من 20 كم وبإرتفاع بين بدايته إلى نهايته 1200 م تقريبا ،وتتنوع فيها الظواهر الطبيعية والتضاريس والتكوينات الجيولوجية، حيث تنتقل من صخور يتجاوز عمرها المليار عام، إلى صخر من العصر الذي نعيشه اليوم ويعرف بالعصر الرباعي.
ولعل من ميزات الوادي السياحية أنك تجد نفسك غير قادر على المشي في هذا السيق الضيق إلا حدوا وحواءا ،وقد تتحشرج النفس بسبب ضغظ الصخور على القفص الصدري، وبالتالي الرئتين ،ورغم أنك تتخيل أن المشهد قاس، لكنه ممتع وجميل. ومن أمتع المشاهد ما عرف بأرجل الفيل ،حيث الأعمدة الدائرية بعد أن تجوت وانكسرت وبقيت متضخمة مثل أرجل الفيل وقد إنتظمت بتوزيع هندسي بديع، وكأن قطيعا من الفيلة الهندية تتمختر أمامك ، وتجعل الأشكال التضاريسية المنحوتة ، تتخيل أنك أمام متحف للمنحوتات التي تشبه في إسقاطاتها النفسية العديد من النباتات والحيوانات المفترسة والطائرة،فهنا تجد منحوتة تشبه الأسد وأخرى تشبه النمر وثالثة تشبه الفيل ورابعة كالطير المجنح، ولا غرابة أن تتوجس من منحوتة تشبه العنقاء الأسطورة.
هذا الوادي الجميل العملاق ينادي الباحثين عن المغامرة والجمال كي يتجولوا في ممراته وامتداده ،ولكن لا بد من أخذ الإحتياجات الضرورية من لباس ميداني وخوذة تغطي الرأس خوفا من تساقط بعض الصخور من عليّ،وأيضا لا تذهب وحيدا، بل مع فريق مكون من ثلاثة أشخاص، وأن تبلغ الآخرين الذين يتواجدون حولك في المكان من دفاع مدني وجهات مسؤولة، بأنك موجود في المكان، وتخبرهم أيضا بكل ما يجري معك،وأن رحلتك إنتهت بسلام حال خروجك.
لذلك لا بد من تبني مشروع وادي نميرة العملاق بوضع كاميرات ووحدة مراقبة للسلامة العامة، وربطها بمركز يتابع كل مقاطع الوادي إضافة إلى جيفونات أرضية تسجل أي ذبذبة لماء أو كائن خطير قد يفاجئك، ضمن مفهوم إدارة الأماكن السياحية وسياحة المغامرة ، لتقليل المخاطر والخسائر أو القضاء عليها نهائيا، ليصبح الوادي مزارا شهيرا على مستوى العالم، ينافس ويقنع المنبهرين بوادي غراند كاني في أمريكا أو منطقة سيفار في الجزائر أو غراميل الرولة في السعودية.
هذا الوادي وإسمه الجميل يتيم على شواطيء البحر الميت ،بلا خدمات ولا إعادة تاهيل، وهو برسم الإستثمار فهل من مستثمر حكومي كان أم من القطاع الخاص، أم أن علينا الإنتظار لتبقى الطبيعة كما هي مذ غادر آدم عليه السلام، ويعرفها الأنبياء الذين مروا بالوادي أمثال سيدنا إبراهيم عليه السلام؟