د.حسام العتوم
استمعت لمقابلة مسجلة عبر اليوتيوب مع رئيس روسيا الاتحادية فلاديمير بوتين حول إقليم (الاسكا – Alaska ), أجرتها معه عام 2014 قناة (روسيا اليوم) الإخبارية RT بالروسية مباشرة , وهي القناة المتلفزة الفضائية الناطقة بالعربية والإسبانية أيضا من موسكو, وقال فيها بوتين وقتها بأن )الاساكا( يقع ضمن الإقليم الشمالي لبلادنا, وهو بارد, ولماذا نسأل عنه و قد تم بيعه عام 1867 في القرن التاسع عشر لأمريكا بالتزامن مع بيع إقليم لوزيانا الفرنسي لها أيضا. وهنا أقول والتعليق لي لو أن ( الاسكا ) بقي في العهدة الروسية لزمن بوتين في القرن الحالي الواحد والعشرين لما تحرك من مكانه , ولبقي روسيا. وقلق حملته صحيفة ( ويكلي وورد نيوز) الأمريكية وقتها بإحتمال أن تتحرك روسيا بوتين التي أعادت إقليم (القرم) من أوكرانيا إلى العهدة الروسية عام 2014 لتتوجه لإعادة ( الاسكا ), وهو مجرد خيال وفانتازيا إعلامية وسياسية سرابية , وثمة فرق بين تاريخ القرم بعد الحقبة العثمانية وسيطرة روسيا عليه في عهد الامبراطورة يكاترينا الثانية بعد حرب حاسمة عام 1774, ودمجه مع أوكرانيا لاحقا في عهد الزعيم السوفييتي نيكيتا خرتشوف عام 1954 لأسباب إقتصادية, ولشق قناة مائية حينها حسب نجله سيرجي خرتشوف, ثم عادت روسيا بوتين وضمته من جديد عام 2014 بعدما أدارت أوكرانيا سياسيا ظهرها لروسيا بداية بعد انقلاب حققه بيترو باراشينكا والتيار البنديري في كييف العاصمة, وبين تاريخ إقليم ( الاساكا ) الروسي منذ عمق التاريخ القديم الذي قرر القيصر الكسندر الثاني بيعه بثمن زهيد بالذهب قدر آنذاك بـ 7 ملايين و 200 ألف دولار فقط بسبب الضائقة الاقتصادية التي كانت تمر فيها روسيا, ولعدم القدرة على الصرف على الإقليم من خزينة الدولة لسعة رقعة أراضيها التي تبلغ أكثر من 17 مليون كليومتر مربع , ولكي لا تسيطر بريطانيا عليه بحكم بعده في الشمال خاصة بعد حرب سابقة بينهما انتهت عام 1812.
ويتضح لي من خلال مشاهدتي لعملية تفاوض الإمبراطور الكسندر الثاني سرا وبحضور شقيقه بشأن إقليم (ألاسكا) في مبنى وزارة الخارجية الروسية في ليننغراد في ذلك الوقت, وبوجود وزير الخارجية الروسية كنياز قارجيكوف والسفير الروسي في أمريكا إدوارد دي ستويكل, وتكليف السفير الروسي بإبلاغ الجانب الأمريكي بموافقة الإمبراطور ألكسندر على البيع في عهد الرئيس الأمريكي أندرو جونسون وسط معارضة للكونغرس, بأن الإمبراطور الروسي لم يكن وبلاده روسيا في ضائقة مالية حقيقية حتى يبيع جزءا من وطنه روسيا للأجنبي الأمريكي, وبأن التحجج ببريطانيا أمر غير مقنع أيضا, وما أراده الإمبراطور هو الإثراء الشخصي غير المشروع, وهو الأمر الذي قوبل بأكثر من محاولة إغتيال, واغتيل فعلا عام 1881. وشخصياً أثناء زيارتي مؤخرا لمدينة سانت بيتر بورغ قبل جائحة كورونا شاهدت من وسط نهر ( النيفا ) المكان الذي تم فيه توقيع إتفاقية البيع, وهو الذي تحول إلى مطعم باللون الأحمر . ومن سكن ألاسكا من الروس وقتها أبكاهم قرار البيع, ولازال الروس ينتقدون العملية برمتها ويعبرون عن حزنهم, ويعتبرونها صفقة غير مناسبة خاصة عندما عرفو لاحقًا بظهور النفط والذهب في الإقليم وبكميات كبيرة. وعندما عرفو بأهميته من الجانب العسكري, فلقد أصبحت صواريخ أمريكا النووية على بعد 15 دقيقة من موسكو. و في المقابل روسيا دولة عملاقة عسكريا الآن ومتطورة تكنولوجيا في العسكرة ومنها غير التقليدية, وتعادل في قوتها حلف ( الناتو) مجتمعا , ولديها قدرة الرد السريع على أية ضربة نووية مفاجئة, وعلى تعطيل شبكة إتصالات الناتو أيضا. ولهذا وذاك نلاحظ بأن إجابة بوتين على سؤال (الاسكا) يأتي هادئا, وهو الرئيس الذي تمسك بجزر (الكوريل) التي كسبتها بلاده في الحقبة السوفيتية نهاية الحرب العالمية الثانية 1945.
وفعلاً ما كان في الماضي يبقى في أدراج التاريخ العميق, وما حدث لأقليم (ألاسكا) شكل خطأ إستراتيجيا لا يغتفر ويصعب تكراره, وفقط في زمن الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف إكتشفت روسيا بأن ما جرى للأقليم صفقة بيع وليس تأجير, وبأن الثمن لم يصرف لصالح الدولة والشعب الروسي, وبأنه بقي في جيب الإمبراطور وحاشيته. فلماذا لم تثور روسيا حينها بوجه الإمبراطور الكسندر وقراره الخاطيء المسيء حتى اليوم ؟ وفي المقابل لم يشهد التاريخ المعاصر أن نجحت غزوة عسكرية لروسيا منذ عهدي نابليون بونابارت 1812 وأدولوف هتلر 19391945, ولم تنجح حتى أمريكا ومعها الغرب في شن حرب باردة ناجحة بوجه روسيا التي حملت على أكتافها الاتحاد السوفييتي 1924 1991, وصنعت القنبلة النووية عام 1949 لمنع تغول أمريكا بسلاحها النووي المصنوع عام 1945 عليها وعلى أمن العالم, وحتى بعد أن خلعت ثوبها السوفييتي أيضا, ورغم إنشطار أوكرانيا وجورجيا ودول البلطيق عن سياسية روسيا الخارجية وإتحادها. وها نحن نلاحظ روسيا التي ترفض الحرب الباردة وسباق التسلح من طرفها تنهض نوعا في سلاحها التقليدي وغير التقليدي, ولديها قدرة الرد في الوقت المناسب على العقوبات الإقتصادية التي تفرض عليها من طرف العالم الغربي (كل ما دق الكوز بالجرة) كما نقول في شرقنا, ولم تستطع أمريكا ولا حتى بريطانيا وألمانيا إثبات تهمها لروسيا كمثال إبان الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016 في عهد الرئيس دونالد ترمب عبر التلاعب السرابي بنتيجة الانتخابات تلك, بينما إشتكى ترمب لاحقا من ظهور عملية تزوير في الانتخابات الرئاسية الأمريكية داخل بلاده قادها الحزب الديمقراطي بقيادة الرئيس المنتخب نهاية عام 2020 جو بايدن, الأمر الذي دفع بحزبه الجمهوري لإقتحام الكونغرس وقتها. وفي قضية الجاسوس الروسي – الإنجليزي المشترك (سكريبال) عام 2019 لم يتم إثبات تهمة تسميم روسيا له قطعا, وفي قضية المعارض الروسي المحسوب على الغرب (نافالني) هذا العام 2021 لم يستطع الغرب اتهام روسيا بتسميمه أيضا, ووقفت أكبر أحزاب المعارضة الروسية وفي مقدمتها الحزب الشيوعي بوجه (نافالني ) قبل سلطة الكرملين في موسكو, وتم إفشال مهمة الغرب اللوجستية من خلال (نافالني) التي برمجته لقيادة ثورة برتقالية في روسيا على غرار ( الأوكرانية ) تبدأ من العاصمة موسكو, لكن هيهات.
ومن يشاهد إقليم (الاسكا) الجميل صاحب التسمية الأسكيموية التاريخية (AlyeskA ( عبر اليوتيوب, والمسمى بإقليم الذهب والنفط, ويحدق بمساحته الجغرافية (مليون وخمسمائة وتسعة عشرة كيلو ميترا مربعا), وبموقعه الإستراتيجي العسكري النوعي , والسياحي كذلك المتعلق بمخزون صفائح الذهب, وهو الذي يسكنه نصف مليون أمريكي وروسي يقر بإرتقاء عملية بيعه من قبل الأمبراطور الكسندر الثاني إلى جريمة الخيانة الوطنية والقومية العظمى . ومع هذا و ذاك نعود ونتفق مع رئيس روسيا الأتحادية فلاديمير بوتين بأنه إقليم بارد, ولم تعد روسيا تريده . والمعروف بأن درجة الحرارة الشتوية الآن تصل فيه إلى 54 درجة تحت الصفر, ووصلت عام 1971 إلى 62 درجة تحت الصفر، والدستور الروسي المعاصر في المقابل، لم يعد يسمح ببيع الأرض الروسية للأجنبي. والأهم هنا الآن بالنسبة لروسية وكما يشدد بوتين هو المحافظة على علاقة تحالف وصداقة مع الويلايات المتحدة الأمريكية. وروسيا كما أمريكا محتاجة لتطوير حجم التبادل التجاري بينهما, وهو الذي وصل عام 2018 الى 22,665 مليار دولار بزيادة مئوية قدرها 9,4 %, والمأمول التوسع في مساحة التبادل التجاري لترتقي إلى مستوى الصين كمثال, حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا والصين عام 2019 ( 107,76 مليار دولار) , وبين أمريكا و الصين لنفس العام 2019 ( 648,2 مليار دولار ), وهي أرقام تؤشر على أن الصين تقدم الاقتصاد دوما على السياسة, وعلى الحرب الباردة.