جهاد المومني
قرأت ما كتبه أحد النشطاء اللبنانيين في مقارنته بين ردود الأفعال حيال فاجعتين آلمتا بكل من لبنان الشقيق والاردن بفارق عدة شهور، كارثة تفجير ميناء بيروت في اب الماضي وما نجم عنه من وفيات بالمئات وما خلفه من دمار وبؤس، وكارثة انقطاع الاكسجين في مستشفى السلط وضحايا الاهمال التسعة الذين قضوا جراء فساد الادارة والتهاون وربما لسبب آخر ستكشف عنه التحقيقات.
حضر جلالة الملك عبد الله الى المستشفى خلال ساعات للوقوف على تفاصيل ما جرى، موقف لا يتكرر في عالم العرب الذي لا ينام على فاجعة الا ليفيق على اخرى، ليس هذا وحسب، فالفاجعة هزتنا مثلما فعلت فاجعة البحر الميت وايقظتنا من نشوة الاعتقاد ان كل شيء على ما يرام، والحقيقة ان الامر ليس كذلك، فما تحت الرماد أشد توهجاً مما تراه اعيننا، والكوارث النائمة قد تستفيق في اي وقت، وكل ما تحتاجه كي تنفجر في وجوهنا وزير او مسؤول او مجرد موظف فاسد او متقاعس ويد مهملة كي تقع الكارثة التالية، وعلينا ان نعترف أن التقاعس عن اداء الواجب ظاهرة مستفحلة اسبابها كثيرة في مقدمتها احساس زائف لدى البعض بالظلم لانهم لم يصبحوا مدراء ورؤساء اقسام او حتى وزراء، او انهم لا يتقاضون الرواتب التي يستحقونها، وليس عليكم أن تحكموا على موظفين محبطين، إذ كيف لا ينتابهم هذا الشعور بالظلم وهم يتفرجون على فساد الجهاز الاداري من اعلى الهرم الى اسفله، فالموظف عديم الكفاءة أصبح بالواسطة مسؤولا عليهم، والمسؤول الأعلى درجة وترقى بنفس الطريقة الفاسدة اصبح وزيراً لان لعبة الحصول على ثقة مجلس النواب تقتظي تلافي زعل بعض المحافظات وبعض العشائر وبعض الاشخاص، كما تتطلب (عدالة ) التمثيل الوزاري عدم تجاهل المحافظات التي تغضب اذا لم يكن منها وزيراً او اكثر في الحكومة التي تتشكل، فلماذا نلوم الموظف البسيط الذي يراقب عداد استهلاك الاكسجين، او يوزع الادوية على المرضى اذا غضب واهمل، فهو في نهاية المطاف من دم ولحم اردني ينتمي الى منطقة غاضبة وعشيرة محبطة ويرى بأم عينه كيف ان الواسطة تأخذ عديم الكفاءة الى ارفع المناصب، ويعلم تماماً انه مهما كد واجتهد تبقى فرصه محدودة وليس له نصيب في الترقية لان الاماكن في الصفوف الامامية محجوزة لغيره ولغير اقاربه، كيف نطالبه اذن بالاجتهاد في خدمة الناس او تأدية واجباته!
ليس الوزير بافضل حال من الموظف الصغير، فهو ايضاً يعيش حالة من عدم الاستقرار لانه يعلم انه تعيّن في منصبه ليس على اساس ثابت وراسخ في الدولة، وانما لوجود شاغر على اساس المنطقة او الكوتا، او تسليكة حال، لانه ليس من فئة الوزراء الذين يستمرون حتى لو كان لديه برنامج ينفذه، وان وجوده مؤقت بانتظار ان يكبر اولاد وبنات العائلات المحظية في البلد ويتخرجون من الجامعات كي يتناولوا منه الوزارة ويمضي هو كما مضى غيره الى التقاعد ويسجل لعشيرته انها ادرجت في قائمة الوزارات، في بلدنا مسؤولين Permanent وهؤلاء لا ينتهون الا بالموت لكنهم يتحولون من شكل الى آخر، وآخرون Disposable وغالباً ما يدفع هؤلاء الثمن عندما تحتاج البلد الى اكباش فداء فالنوع الاول من المسؤولين لا يخطئون ابداً بل يحظون بحماية على كافة المستويات، وقد يرتكب احدهم اخطاء تضع البلد على كف عفريت ثم لا تدري كيف تمتد الايدي لانتشاله من جهله وقلة كفاءته وفضائحه، فاذا كان وزيراً يُبعد عن الخطر ويصبح سفيراً او مندوباً للاردن في منظمة مهمة او يودع في مجلس الاعيان ثم يخرج كالعنقاء فينفض جناحيه ويعود او تعود مرة تلو مرة، اما اذا اخطأ جماعة ( المرة الواحدة) فأن غضب الدنيا كلها يقع على رؤوسهم ويصبحون مفسدين في الارض..!
الادارة العامة في الدولة بلا اعمدة علمية ثابتة تقوم عليها، وليست سوى اجتهادات تنقصها المرجعيات الصادقة المخلصة فاحياناً تكون بتوصيات شخصية او مجرد خطة طارئة لذري الرماد في العيون، او ردة فعل شعبوية او فزعة بالعليق عند الغارة، هي شعوذة ولعب مع الحظ، قد (تزبط ) ونمضي بهدوء لسنة او سنتين، وقد لا تزبط ونصبح كالحمام المكشوش كل طير يحلق في ناحية، هذه الحقائق نخاف من ذكرها والاعتراف بها مع ان جلالة الملك اشار اليها مرات وليس مرة واحدة، ولا تمر مناسبة الا ويذكر الحكومات بها، لكن ثمة حقائق مرة عندما نضع اوراق الحساب على الطاولة، فالمقصر والفاسد والمتقاعس ليس وحيداً ليتحمل نتائج أفعاله كما نتخيل، فقد ثبت اننا مجتمع نشكو الفاسدين ونحمي الفاسد ولا نسمح بمحاسبته على قاعدة مقيتة تقول (روحو حاسبوا اللي باعوا البلد بالاول )، وبالمحصلة ضعفت السلطة امام الفاسدين الصغار والكبار على السواء، حتى المحرضين على الفوضى تخشى الدولة محاسبتهم او حتى جلبهم للتحقيق لانها تحسب حساب اتباعهم، لكنها لا تتردد في استدعاء غاضب فش غله بمنشور مسيء ولكن بنوايا طيبة، حتى في الظلم هناك مستويات، هذا يحاسب وذاك لا احد يحاسبة، بل هناك محرضين دعوا الى مقاطعة الانتخابات تدفع الدولة رواتبهم، ومحرضين على الفوضى يتقاضون ثلاثة رواتب من ثلاث دول مختلفة بينما السلطة في بلادنا تتفرج، وكلما تحدثت مع مسؤول عن هذا النوع من الفساد والفوضى بسط يديه وصار يشكو ويولول مثلك تماماً.
نفهم أن الحكومات الاردنية اليوم هي الحلقة الاضعف حين تصبح هدفاً لكل من هب ودب لتمرير نفس المطالب والمشاريع من خلال وضعها دائماً في خانة الاتهام والتخوين والتآمر على الناس، لكن هذا لا يجب ان يكون سبباً للتهاون وقبول الانتقاص من الولاية العامة، والحكومات هنا ليست هي الهدف، الهدف هو الاردن وما لم يتحقق من خلال الضغوطات الخارجية الاقتصادية والسياسية يراد له ان يتحقق من الداخل بزعزعة الثقة بمؤسسات الدولة وقوانينها وحتى بالانسان الاردني، وندرك ان الشعبوية اليوم غير مكلفة ابداً فيكفي البعض شتم الدولة والدعوة للتحريض كي يحقق عشرات آلاف المشاهدات ومئات تعليقات الاعجاب وشعبية مدفوعة الثمن من جهات ومؤسسات تمولها دول يغيضها الاردن بمواقفه من القضية الفلسطينية على وجه الخصوص…وللحديث بقية..