م. شدى الشريف
اتسمت محطات حياة والدي، رحمه الله، بارتباطها الوثيق بالعلم والعمل، فبينما تهافت أقراننا على أحدث إصدارات الألعاب الالكترونية، وجدت عند والدي شغفا بالقراءة لم ينقطع منذ إتمامه قراءة جميع الكتب في مكتبة المدينة في شبابه ذات صيف .
وبعد عقود من ابتعاثه لاستكمال شهادة الدكتوراه في أميركا (حيث زامل والدتي على مقاعد الدراسة)، ها أنا اليوم أحذو حذوه على أعتاب التخرج من برنامج الماجستير الثاني في الإدارة العامة من جامعة هارفارد، متمسكة بذكراه العطرة وإيمانه المطلق بقدرة العلم المقترن بالقيادة والأخلاق والتوكل على إحداث التغيير، إذ أجد نفسي أمام حجم من الدروس العميقة والحكم التي غرسها فينا علماء وقادة فكر من «مركز القيادة العامة» في كلية كينيدي للحكومة، في علوم القيادة والتواصل والتخطيط والحوكمة والعمل المجتمعي وغيرها.
حيث يسعى مركز القيادة العامة إلى بناء القدرات في ما يسمى بـ «القيادة الخدمية»، وهو اسلوب قيادة يعزز صفات التواضع والتعاطف والاحترام والتفاني والاصالة والتعلم المستمر أثناء تأدية دور القائد في خدمة المجتمع وفريق العمل والصالح العام، حيث تشير الدراسات إلى ارتفاع نسب نجاح هذا النوع من القيادة مقارنة بالأسلوب النمطي السائد والمتسم بالفوقية والسعي في تعزيز النفوذ الشخصي دون المصلحة العامة.
خلال دراستي أدركت أن العديد من هذه الصفات والمهارات القيادية التي يسهل الحديث عنها ولكن يصعب تطبيقها كنت قد عشتها في مثال واقعي مع والدي رحمه الله الدكتور نبيل الشريف (ابو طارق) وهو ينميها فينا منذ نعومة أظافرنا، وقد استعرضت لزملائي في الدراسة بعض ما رأيت من صفات القيادة الخدمية التي تحلى بها والدي قبل أن يكون للمصطلح معنى يدرس.
قد كان والدي يجسد مبدأ التواضع في ابتسامته الحانية تجاه احفاده، والوقت الذي كان يسخره للحديث معهم وتنمية آفاقهم الابداعية من خلال الكتابة والشعر وروح الفكاهة، وأذكر جيدا البريق في عيني ابنتي مريم ذات الأربع سنين وهي تنظر بإعجاب الى جدها «داتوك» (كما كان يحب ان ندعوه بدلا من كلمة «جدو»!) وهما يؤلفان قصة مشتركة في كراستها الوردية، يتبعها ظهور له في مقابلة تلفزيونية او مكالمة مع جهات محلية أو دولية حول آخر المستجدات السياسية أو قضايا الاعلام.
وتعج ذاكرتي بالمواقف التي أبدى فيها تعاطفه رحمه الله نحو جميع المخلوقات، فعلى الرغم من انشغاله في رئاسة تحرير جريدة الدستور في أوجها أو على رأس ملف وزاري حساس، كان يجد وقتا لإطعام الطيور والعناية بنباتاته النادرة بيده الحنونة، وأكاد أجزم أن حبه للطبيعة هو ما دفعني نحو العمل في مجالات حماية البيئة والتنمية المستدامة.
وقد كان يبدي الاحترام تجاه الجميع دون استثناء بغض النظر عن التوجهات السياسية أو الفكرية أو العمرية أو المهنة أو غيرها من مسببات التفرقة، وما أحوجنا اليوم إلى بناة للجسور بين البشر مثله، فكما كان سفيرا يمثل بلده بفخر في المحافل الدولية فإنه لم يبخل يوما بوقته كأستاذ ومرشد لعدد غفير من الطلبة والإعلاميين.
لقد اعتدنا في طفولتنا انتظار والدنا ليعود إلى المنزل في ساعات متأخرة من الليل، وقد اشتهر ببقائه في الجريدة لحين الانتهاء من تنسيق عدد اليوم التالي والشروع بالطباعة، فلا يغادر مكتبه حتى يطمئن لصدور النسخة الورقية المطبوعة، فيعود للبيت حاملا معه رائحة الحبر وراضيا بالإنجاز على الرغم من التعب الظاهر عليه، وكيف لا وهو يستكمل مسيرة الأجداد والأعمام في بناء مؤسسات الدولة الأردنية الحديثة، ولا بد بمناسبة مئوية الدولة أن نستذكر مساهمة جدي محمود وعمي كامل والحاج جمعة حماد، رحمهم الله جميعا، في تأسيس أول صحيفة يومية أردنية سنة 1967، وقد جسد والدي التفاني حتى آخر نفس له، حيث كانت آخر رحلة عمل له كمدير تنفيذي لمؤسسة «أنا ليند» بهدف تعزيز الحوار والاحترام المتبادل بين دول حوض البحر المتوسط .
أذكر جيدا نصائح جدي ووالدي، رحمهما الله، قبل سفري لإتمام دراستي الجامعية الأولى في أميركا: «افخري وتذكري من أنت»؛ ولم أعِ أهمية تلك الكلمات الا بعد سنين، ولكني أوقن اليوم بأن القائد الناجح هو الذي يعمل بمصداقية ووفاء واصالة نحو المبادئ التي جبلته، ويوظفها لتنير عمله في خدمة بلده ومؤسسته والصالح العام ومسيرته التعليمية المستمرة، فنادرة هي الأوقات التي رأيت فيها أبي دون قلم يكتب به أو كتاب يقرأه، ولكنه فوق ذلك، وعلى النقيض من العديد من أقرانه معاد للتكنولوجيا، استطاع أن يوظف سبل التواصل الحديث، وأذكر فرحته في الوصول الى 20 ألف متابع على منصة تويتر، وقد استمر بدوره كمعلم بأمانة مسخرا التواصل والتفاعل مع طلابه أو جمهوره في الفضاء الالكتروني.
أصبحت أؤمن بأن القيادة الخدمية من ركائز الارتقاء بالمؤسسات العامة والخاصة والتي هي بأمس الحاجة الى قادة تكليف لا تشريف، قادة خدمة وتواضع وتعاطف وعدالة وتفاني وأصالة وعلم، وأرى الآن انني لم أضطر للبحث بعيدا عن معنى «القيادة الخدمية»، قيادة النبل والشرف.