
رمزي الغزوي
جاء لونا علم الجمهورية الأوكرانية الأزرق والأصفر، والذي أقرّه برلمانها عقب انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 جاءا اشتباكا مع ثيمتين رمزيتين طالما تطلع إليهما هذا الشعب – كباقي شعوب العالم – هما حرية تسمو حيث لا تحدّها إلا زرقة سماء شاسعة، وسنابل قمح ذهبية مائجة تغمر أراضي بلد كانت على مرّ التاريخ سلّة غذاء لأوروبا وسواها.
هذان اللوان يخضعان الآن لعملية طمس حمراء دموية عقب اجتياح قوات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وهذا العدوان يتزامن مع مأساة حلّت بالأوكران قبل تسعة عقود حين ضربهم «هولودومور» رئيس الاتحاد السوفيني جوزيف ستالين موديا بحياة الملايين منهم. وهذه الكلمة الصعبة تعني ببساطة «القتل بالتجويع»، بعد أن فرض ذلك الديكتاتور على فلاحيهم سياسة المزارع الجماعية وظلمها البليغ. لن ينسوا ذلك، حتى وهم يعانون هولومودراً بوتينياً لا يعني أيضا إلا القتل بالتقتيل، وبالتهجير والإلغاء، وكسر الإرادة وفرض الوصاية، مستكثرا عليهم أن يكونوا خارج عباءة اتحاد شبع موتا، لكنه ظل نابضا في مخيلة زعيم الكرملين وطموحه المديد.
وسبق لبوتين أن وجه انتقادا لستالين كما للينين؛ لأنهما لم يتخذا خطوات عملية تقرّ بأن أوكرانيا كانت دائما جزءا من روسيا؛ وهذا تبرير أعمى ساقه لما يقوم به الآن مسميا هذا العدوان والقتل والتنكيل والتشريد بالعملية الجراحية التي سيقوم بعدها المرض مشافى معافى ليمارس حريته وإرادته ويخصّب قمحه ويتنسم حريته السماوية. لكن بوتين في عمليته وضع العالم على شفا جرف هارٍ، لأن الحربين العالميتين السابقتين لم تكن شرارتهما الأولى أكبر من هذا الحريق الذي أوقده بعنجهية وغطرسة.
تحجّج بوتين بأن أوكرانيا يجب ألا تدخل في حلف الناتو وألا تكون عمقا له، وأن عليها أن لا تخرج من عباءته وظله وتاريخه وطموحه الشخصي مع العلم أن الناتو تمدّد إلى عدة دول كانت تدور في محور موسكو السوفيتية، وأن دولتي هذا الحلف إستونيا ولاتفيا لديهما حدود مشتركة مع بلاده، لكنه سعى إلى استعادة أمجاد ذلك الاتحاد بنسخة بوتينية خالصة فمضى في طريقه دون أن يجد من يصدّه، بدءا من عام 2000 حين وقف تدخل في الشيشان؛ وأحرق عاصمتهم، ثم بعدها بثماني سنوات قام بعمل عدائي في جورجيا دعماً لأوسيتيا الجنوبية، وأتبع ذلك بقضم شبه جزيرة القرم، وتدخل في سوريا، وكل هذا تحت نظرية نظرية لا تقوم إلا في رأسه مفادها تصحيح مسار التاريخ.
وعلى ذكر هذا المسكين المسمّى تاريخا؛ فإن ميخائيل غورباتشوف آخر رؤساء الاتحاد السوفيتي قال قبل أيام عبر مقطع تلفزيوني إن التاريخ متقلب المزاج، ناسيا أن يضيف إلى هذه الجملة أنه معتل ومجنون حين يغدو مصير البشرية مرتبطا بيد شخص واحد يمكن أن يأخذه إلى جحيم الهاوية في أي وقت يشاء بكل اختلال، ودون أن يرف له جفن.
ومع هذا لن ينتصر بوتين، حتى ولو أخذ العاصمة كييف اليوم، مسقطا حكومتها ومنصّبا أخرى تقبل وتنفذ شروطه، ليس لأن الصحوة العالمية تقف بوجهه بصرامة هذه المرة وتفرض عليه طوقا سيجعله مهزوماً حتى في عز انتصاره فحسب، بل لأن روح الأوكرانيين المتمثلة بالزرقة والصفرة، ومعانيهما المتشربة في وجدانهم، ستقلب الطاولة وتفرض إرادتها الحتمية.