سعيد الصالحي
كتابة الرواية في الأردن تشبه إلى حد كبير ممارسة الرياضات الفردية كالمصارعة الرومانية، الجودو، والتايكوندو، فهذه الرياضات لا يستطيع أن يمارسها إلا من امتلك الموهبة، وليس كل قادر على شراء الزي الرياضي الخاص بها، فعدد كبير من المميزين الذين مارسوا هذه الرياضات لم يسمع بهم أحد، وانتهت مسيرتهم الرياضية دون الحصول على معدن أولمبي، ودون أن تحفر اسمائهم في سجلات الخالدين، وكم روائي كتب فأبدع، وذهب كأنه لم يك شيئًا.
خلال الأشهر السابقة تم دعوتي من قبل الناقد سليم النجار للحضور والمشاركة في الندوات الثقافية المتعددة التي تقوم بها مبادرة نون للكتاب، في البداية كنت أعتذر متحججًا ولو كذبًا، كانت الدعوة الأولى لنقد روايتي البكر”ظل الغراب”، فاعتذرت بدون تفكير، وتحت ضغط وإلحاح من المبادرة، وبعد أن استشرت واستخرت قررت الذهاب إلى الندوة، تأنقت ووصلتي كعادتي قبل الموعد لمكان انعقاد الندوة، كانت فكرة النقد ترهبني، فأنا كشرقي لم أخلق إلا لأنتقد، مرت الندوة بسلام وخرجت منها حيًا لاكتشف أن النقد لا يودي بالحياة، وأنه يضيف للكاتب ويرفع منه.
ولأني تمتعت بروح رياضية في تقبل النقد، وبسبب تلك الابتسامة التي لم تفارق محياي، فقد تم دعوتي بعد شهر من مبادرة نون للكتاب مرة أخرى، لأقدم هذه المرة الروائي الأستاذ أحمد صبيح، فوافقت بعد أن طلبت مهلة للتفكير، وعندما بدأت في تقديم الأستاذ صبيح، وجدت نفسي أتلعثم وغير قادر على قراءة الكلمات التي أعددتها في عدة أوراق، مع أنني حد تعبير أصدقائي “بالع راديو”، ولكن على ما يبدو أن بطاريات الراديو قد فرغت في ذلك اليوم، واصلت التقديم بدعم من نظرات الحاضرين الذين أشفقوا على حالي، وقلت في نفسي “عمره عواد ما يعيدها”.
وقبل عدة أيام تم دعوتي من قبل المبادرة مرة ثالثة للمشاركة في ندوة أدبية برفقة عدد من الروائيين والنقاد المميزين للحديث عن الرواية الأردنية، وكان عنوان الندوة “الرواية الأردنية بين الواقع والإنكار”، في البداية ظننت أن المهمة سهلة وأن لدي متسع من الوقت للتحضير لهذه الندوة، فكنت أفكر في الرداء الذي سألبسه يوم الندوة، أكثر مما فكرت في موضوع الندوة، وقبل موعد الندوة بدأت بالتحضير لها، ولم يكن الأمر يسيرًا كما تخيلت، فبدأت أسأل عن أول رواية أردنية، تارة أسأل محرك البحث على حاسوبي الشخصي، وتارة أسأل الأساتذة الذي تعرفت عليهم بوصفي زميل مستجد في عالم الرواية والأدب، وكانت البوصلة تشير دائمًا نحو الروائي المرحوم “عقيل أبو الشعر” وإن شئت سمه “أشيل نمر” وهذا ليس اسمًا حركيًا لهذا الأديب الشامل بل هو اسمه الافرنجي الذي عرف به في معظم دول أوروبا ودولة الدومنيكان قبل أن نعرفه في بلادنا إلا قبل بضعة سنوات، لقد احتاج جيلنا عقودًا حنى نكتشف هذا الرجل، فكم من “عقيل أبو الشعر” سيكتشف ابنائنا في المستقبل؟
يقال أن هذا الرجل هو أول من قام بكتابة الرواية في العالم العربي في العام 1912، وبهذا تكون رواية “أرمنية في قصر يلدز” هي حجر الدمينو الأول، الذي ستتدافع بعده الرواية العربية بالظهور، وأنا أؤمن بهذه المعلومة وأصدقها وأدعمها وسأحرص على تسويقها ونشرها، فأول رواية في العالم العربي تعمدت في نهر الأردن، ولا يهمني من أي ضفة كان التعميد، فلماذا لا نؤمن بهذه الحقيقة؟ ولماذا علينا دائمًا أن “نصغر اكتافنا” عندما يتعلق الحديث في أوائل الأشياء؟
وبالعودة إلى الندوة وبعد أن قمت بتحرير أفكاري على بضعة أوراق، قررت أن أرتجل الحديث هذه المرة، وألا أقرأه مثلما فعلت عندما كنت أتلعثم في المرة الفائتة، تموضعت إلى جوار زملائي، وأمسكت أوراق اعتمادي لأقدمها كمتحدث في هذه الندوة، قدمني الروائي أحمد الطراونة مشكورًا بطريقته المميزة واللبقة، وبدأت أتحدث عن الرواية الأردنية، متخذًا من الاستقراء الرياضي منهجًا، فكيف لرواية ترجمت إلى عديد اللغات، وفازت بالجوائز العربية، وصدر بعض منها بلغات أجنبية، وكل كتب النقد التي صدرت حول هذه الرواية، ألا تكون موجودة !! فمن هذا الذي سينكر الأستاذ عيسى الناعوري وبيته وراء الحدود، هذه الرواية التي صدرت في الخمسينيات من القرن الماضي، رواية أشبعها النقاد جرحًا وتعديلًا حتى بات ينقصها أن يعاينها الطبيب الشرعي لمعرفة سبب الحياة والخلود، الرواية في الأردن تطورت بتطور هذا البلد، وكانت مرآته في كثير من الأحيان، وحملت همه وتطلعاته منذ النشأة الأولى وما زالت على العهد.
عندما نعود بالرواية الأردنية التي انطلقت منذ الثلاثينات كما هو متعارف عليه بين أوساط المثقفين، وربما قبل ذلك نجد أن هناك صعوبة في الحصول على متن الروايات الأولى، فعلى من تعود هذه المسؤولية، هل هي مسؤولية وزارة الثقافة؟ أم رابطة الكتاب؟ أو ربما هي مسؤولية الروائي وأهله من بعده، فحتى ننهض بالرواية الأردنية يجب أن نسعى لإبراز تاريخها وأرشفة أنجازاتها، وأن نجعلها مادة عابرة للأجيال، ومن تجربتي الشخصية فحتى أحصل على بعض أعمال الأستاذ عيسى الناعوري وتحديدا رواية “بيت وراء الحدود” كان علي التواصل مع أخيه أستاذي غازي الناعوري، وكذلك للحصول على رواية الكابوس للأستاذ أمين الشنار كان علي الاتصال مع نجله صديقي عمار، وما زلت مصرًا للحصول على إجابة، فالحفاظ على هذا الإرث التاريخي هو مسؤولية من؟ فبعد عشرات السنوات من أين سيحصل ابنائنا على رواية “خبز وشاي” للأستاذ أحمد الطراونة؟
ولا يصح الحديث عن الرواية دون الحديث عن أصحابها من كتّاب وقرّاء، فالروائي اليوم كلاعب كرة القدم قبل عصر الاحتراف، يكد طوال النهار في وظيفته، ثم يقوم بواجباته الأسرية والإجتماعية، وفيما تبقى له من ساعة أو أثنتين عليه أن يقرأ أو يكتب، فالروائيون المتفرغون للكتابة في بلدنا يمكن عدّهم على أصابع يد واحدة، أما الآخرون فإما تفرغوا بعد التقاعد وإما ما زالوا يخطون رواياتهم بالعرق والجد كل يوم قبل أن تخطها أناملهم على بياض الورق، أما فيما يتعلق بالقرّاء فلديهم أزمة هم أيضًا، والأزمة ليست أزمة رواية إنها أزمة ثقافية عامة في مختلف مجالات المشهد الثقافي، فالذوق العام للمجتمع قد تغير، وأصبحت القراءة عادة كالتدخين كما وصفها الأستاذ توفيق الحكيم، فلا يعني بالضرورة أن انتشار القراءة بين أفراد المجتمع، واكتظاظ معارض الكتب بالزوار، واصطفافهم في طوابير للحصول على اهداء مهمور بتوقيع المؤلف، دليلًا دامغًا على تطور المشهد الثقافي، لقد أصبحت القراءة عادة وحسب، فنحن نلتهم أي كتاب وحبذا لو كان هذا الكتاب مترجمًا أو غربيًا، فالثقافة للأسف أصبحت استعراضًا، وبات مطلوبًا من الروائي أن يتماشى مع متطلبات السوق واحتياجاته من عرض وطلب، وإن كان الروائي يعتاش من عوائد الرواية فكان الله في عونه فلن تكفيه عائداته خبزًا وقارورة كاز.
وفي هذه المناسبة فأنا استغرب سبب الزوبعة التي تثار حول بعض الروايات والأعمال الأدبية بين الحين والآخر، فرفقًا بكتابنا فنحن نستطيع أن ننتخب كل أربعة أعوام نائبًا في مجلس النواب -الذي حول إحدى الروايات مؤخرًا لإحدى لجانه- ولكن ليس لدينا نفس الرفاهية عندما يتعلق الأمربالروائيين والكتّاب، فالرواية عالم ليس بالضرورة أن يشبه عالمنا، فالرواية ولدت في رحم الخيال، ويجب أن نحرص ألا تقتل وتدفن في واقعنا.